لو أنك راجعت أداء تنظيم «داعش» عبر الشهور الماضية التى شهدت نشأته وتطوره، فستجد أنه ليس تنظيماً، بل هو أقرب إلى الشركة، بالمعنى الكامل لكلمة «شركة». فناهيك عن أن هناك مساهمين من جنسيات مختلفة فيه (يقدرها البعض بثمانين جنسية)، تجد أن «داعش» يستند فى أدائه إلى ثلاثة مرتكزات أساسية، تتمثل فى التسويق، والتمويل، والاعتماد على اللوجيستيات (المعونات الفنية) التى يتحصل عليها من مصادر مختلفة، فى تنفيذ عملياته. ولو أننا فككنا أداء «الشركة الداعشية» فى «مذبحة باريس»، وهى تعد واحدة من أخطر عملياتها الخارجية، فسوف تجد أن معنى «الشركة» يقفز فى كل جزء وركن من أركان هذه العملية. تعال نبدأ بالجانب التسويقى، ومهارة توظيف الأداة الإعلامية والاستفادة منها إلى أعلى درجة.
اختارت «شركة داعش» توقيتاً حاذقاً لتنفيذ المذبحة، تزامن مع مباراة ودية كبرى ما بين المنتخبين الفرنسى والألمانى، وأنت تعلم التنافس الشديد ما بين هذين المنتخبين على زعامة الكرة الأوروبية، ولم تكن المباراة عادية أيضاً، لأن الرئيس الفرنسى كان حاضراً لها داخل استاد فرنسا. اختارت الشركة الداعشية -بشكل واعٍ ومخطط- محيط الاستاد الذى شهد المباراة لتنفيذ التفجيرين الكبيرين اللذين قامت بهما. الدقة فى اختيار الزمان والمكان جزء من المهارة التى لا يجيدها إلا الراسخون فى العمل الإعلامى والتسويقى، لأن هذا الاختيار يحدد قدرة صانع الحدث على جذب أكبر عدد من المتابعين له. مؤكداً أن العقل الذى اختار التوقيت والمكان وسياق المباراة وحضور «أولاند» لها عقل خبير فى دنيا الإعلام والتسويق.
الملمح الأخطر فى الأداء التسويقى والإعلامى المرتبط بمذبحة باريس ارتبط بتأخير سفك دماء ضحايا مسرح «باتاكلان»، وأنت تعلم أن العملية التى تمت فى المسرح وقع فيها أكبر عدد من القتلى والمصابين. كان بإمكان أعضاء «الشركة الداعشية» المنفذين للعملية تصفية الموجودين فى المكان لحظة أن دخلوا إليه وتمكنوا منه، لكنهم انتظروا واحتجزوا مَن بالمسرح كرهائن، حتى يمنحوا وسائل الإعلام فرصة نقل الحدث وهو فى أعلى درجات السخونة. فمؤكد أنهم كانوا يتوقعون كإعلاميين محترفين أن الرهائن سينقلون معلومات عما يحدث بالداخل عبر وسائل التواصل الاجتماعى، والأكثر تأكيداً أنهم كانوا يفهمون أن قوات الأمن الفرنسى ستصل إلى موقع الحدث للتعامل معهم، كانوا يتوقعون كل ذلك، لكنهم صبروا بعض الوقت حتى يتم تسويق الحدث بأعلى درجات النجاح. وكان لهم بالفعل ما أرادوا.
نحن أمام حالة إعلامية شديدة النضج، ومؤكد أنك تستوعب أننى لا أقول ذلك على سبيل المدح، بل على سبيل التوصيف، لأنقل إليك الجانب الإعلامى والتسويقى فى أداء «داعش» الذى يجعلها أقرب إلى منظمة الأعمال منها إلى التنظيم، وإلى الشركة منها إلى الجماعة، وإلى الجمعية المساهمة منها إلى الدولة. ولو أنك تذكرت الفيديوهات التى ينتجها «داعش» حول عملياته فسوف تتأكد لك الفكرة بدرجة أكبر، فالجانب التمثيلى والأدائى الذى ظهر واضحاً فى هذه الفيديوهات يدلل لك من جديد على حضور المهارة الإعلامية والتسويقية، بصورة تتفوق على أداء وزارات وأجهزة إعلام من المفترض أن لها تاريخاً مديداً وباعاً طويلاً فى العمل الإعلامى، لكن مشكلتها أنها لا تعمل بفكر الشركة، بل بفكر الدولة.
نقلا عن الوطن