تحدثنا فى المقالة السابقة عن كل من الخليفة «الوليد بن عبدالملك»، وأخيه «سُليمان بن عبدالملك»، وعن حاكمين من حكام «مِصر» فى مدة خلافتهما: «عبدالله بن عبدالملك بن مروان» و«قرة بن شريك»، اللذين كانت مدة حكم كل منهما على «مِصر» شديدة قاسية، إذ وقع فيها ظلم كبير على المِصريِّين عمومًا، وعلى الأقباط بوجه خاص. وكما ذكرنا فإن الخليفة «سُليمان بن عبدالملك»، فى أثناء مرضه، كتب يولّى الخلافة من بعده إلى «عمر بن عبدالعزيز».
ونستكمل اليوم الحِقبة التالية التى تولَّى الخلافة فيها «عُمر بن عبدالعزيز»، و«يزيد بن عبدالملك»، ثم «هشام بن عبدالملك»، الذين وضعوا على «مِصر» عددًا من الوُلاة هم: «عبدالملك بن رفاعة القينىّ»، وكان عامل الخَراج «أسامة بن زيد التنوخىّ»، ثم تولى حكم مِصر «أيوب بن شُرَحْبِيل»، ثم «بِشر بن صفوان»، الذى تركها إلى أخيه «حنظلة بن صفوان»، ومن بعده «مُحمد بن عبدالملك».
«عبدالملك بن رفاعة القينىّ» (٩٦- ٩٩ هـ/٧١٤- ٧١٧م)
ولّاه أمر «مِصر» الخليفة «الوليد بن عبدالملك»، ثم مات «الوليد»، وخلفه أخوه «سُليمان»، الذى أقره على ولاية «مِصر». وقد جعل «أسامة بن زيد» عاملاً للخَراج (جامعًا للضرائب).
«أسامة بن زيد التنّوخىّ» (٩٦- ٩٩ هـ/٧١٤- ٧١٧ م)
تولّى «أسامة بن زيد» أمر خَراج «مِصر» فى عام ٩٦ هـ. ويُذكر أن الخليفة «سُليمان بن عبدالملك» كتب إليه يقول: «احلِب الدَّر (اللَّبن) حتى ينقطع، ثم احلِب الدم حتى يَنصرِم (ينقطع)». وهكذا أصاب المِصريِّين شدة عظيمة، وحدث غلاء عظيم تسبب فى موت كثيرين. كان «أسامة بن زيد» ظالمًا شديد الجَور على المِصريِّين، إذ فرض الضرائب الفادحة عليهم ومنها عشَرة دنانير على كل مارّ فى النيل صاعدًا أو نازلاً، وفى هذا الأمر نجد قصة عن أرملة سافرت فى «النيل» مع ابنها، بعد أن دفعت تذكرة المرور بمشقة شديدة لفقرها، فحدث فى أثناء المسير أن ابنها حاول أن يأخذ من مياه «النيل» ليشرب، فاختطفه تمساح وابتلعه وثيابه! وقد نظر تلك الواقعة جميع الناس، وكانت تذكرة المرور فى جيبه، فعندما وصلت الأرملة إلى غايتها، اعترضها صاحب التذاكر ورفض مرورها حتى تقدم تذكرة المرور، فأخبرته بقصتها وموت ابنها على مرأى ومسمع من الناس، إلا أنه رفض أن يسمع صرخاتها ولم يُفرج عنها حتى باعت كل ما لديها ووفت ثمن التذكرة!!
كذلك ذُكر عن «أسامة» أيضًا أنه أصدر أوامره إلى الشرطة بعدم سماحهم لشخص بالتنقل من بلد إلى آخر دون تصريح، مع سلبهم لما يحمله من ممتلكات. ومن أعماله أنه بنى مقياسًا للنيل فى «الروضة» بين «الفسطاط» و«الجيزة». وبينما المِصريُّون يئنون من ظلم «أسامة» مات الخليفة «سُليمان»، فصبَروا على أمل أن يُقيله من يخلُفه.
عُرف أيضًا «أسامة بن زيد» بكراهيته الشديدة للأقباط أكثر منها فى الوُلاة السابقين، فقد أمر بعدم ترهب أىّ راغب فى الرهبنة جديدًا بعد أن أحصى عددهم، كما أمر أن يَلبَس كل واحد منهم حلْقة حديدية فى يده اليسرى، عليها اسم بِيعته ودَيره والتاريخ الهجرىّ، كانت تؤخذ من جابى الضرائب إشارةً إلى دفعه المال. وقد عوقب كل من خالف تلك الأوامر عقابًا شديدًا وصل فى بعض الأحيان إلى الموت! كذلك طالب الرهبانَ بألف دينار وأغلق الكنائس. وقد عزله الخليفة «عمر بن عبدالعزيز» وأمر بسَجنه، فحُبس فى «مِصر» سنةً، ثم «فلسطين» سنةً. إلا أنه بعد موت الخليفة «عمر بن عبدالعزيز»، وتولى «يزيد بن عبدالملك»، أمر بردّ «أسامة» على «مِصر» مرةً ثانية.
الخليفة «عُمر بن عبدالعزيز» (٩٩- ١٠١ هـ/ ٧١٧- ٧٢٠م)
تولّى «عُمر بن عبدالعزيز» الخلافة بعد وفاة الخليفة «سُليمان بن عبدالملك». وقد تحدث عن عدله فى الخلافة كثير من المؤرخين، فقد كان أحد الخلفاء العادلين الذين تولَّوا الخلافة، حتى إنه لُقب بـ«خامس الخلفاء الراشدين». ويذكر د. «حسن إبراهيم حسن» أن «عُمر بن عبدالعزيز» «رفع الجزية عمن أسلم من أهل الذمة، وخفف الضرائب عن عامة المسلمين وبخاصة الموالى من الفرس. ومن السهل أن نتنبأ بنتائج هذه السياسة الجديدة التى كان من أثرها أن زاد إقبال الناس على الإسلام.. وقدَّم إلى أهالى البلاد التى فتحها العرب كل لون من ألوان الإغراء لقَبول الإسلام، حتى إنه كان يمنحهم هبات من المال». كذلك رفع الخَراج عن الكنيسة وعن الأساقفة، إلا أنه منع الأقباط من العمل فى الإدارة وأعمال الحكومة. وقد رفع إليه المِصريُّون شكواهم من «أسامة»، فعزله وولّى عليهم «أيوب بن شُرَحْبِيل».
«أيوب بن شُرَحْبِيل» (٩٩- ١٠١ هـ/ ٧١٧- ٧٢٠م)
تولّى حكم «مِصر» بأمر من الخليفة «عُمر بن عبدالعزيز»، وكان ورعًا نزيهًا عادلاً. وقد ساس «مِصر» بحكمة وعدل بين أهلها جميعًا، حتى نسِىَ المِصريُّون معاناتهم من «أسامة». وفى عهده كثُرت العطايا على الناس وحسُنت الأحوال. وعندما تُوُفِّى «عُمر بن عبدالعزيز»، وتولّى من بعده «يزيد بن عبدالملك»، تركه «يزيد» على ولاية «مِصر» حتى تُوُفِّى.
الخليفة «يزيد بن عبدالملك» (١٠١- ١٠٥هـ/٧١٩- ٧٢٣م)
كان «يزيد» حاكمًا غير مهتم بواجبات الخلافة، سيئ التدبير فى أمور الحكم والسياسة، ما كان له أسوأ الأثر فى سائر رعية «مِصر» وغيرها من البُلدان، ولم يوجد سلام فى أيامه. كما كان شديد العداء للأقباط، وقد أمر بكسر الصُّلبان وإزالة الصُّور والأيقونات من الكنائس. وبين عامى (١٠١- ١٠٢هـ/ ٧٢٠- ٧٢١م)، ولّى الخليفة «يزيد» على «مِصر» «بِشر بن صفوان الكلبىّ»، ثم جعل «بِشر» أخاه «حنظلة بن صفوان» على حكم «مِصر»، بعد أن وُلّى على حكم «المغرب» بموافقة الخليفة وإقراره إياه على حكمه.
«حنظلة بن صفوان» (١٠٢- ١٠٥هـ/ ٧٢١- ٧٢٤م)
تولّى حكم «مِصر» بعد أن ولّى الخليفة «يزيد» «بشر بن صفوان» على «المغرب». وقد ذكر المؤرخ «الكِنْدىّ» عنه: فقد استخلفه أخوه بشر بن صفوان على ولاية «مِصر» وأقره عليه «يزيد بن عبدالملك». وفى أثناء مدة ولايته الأولى، التى استمرت ما يقرب من الثلاث سنوات، وقعت اضطرابات فى «الإسكندرية». وقد أمره الخليفة «يزيد» أن يقوم بتحطيم ما بقى من أصنام فى «مِصر»، ففعل ذلك وحطم معظمها.
الخليفة «هشام بن عبدالملك» (١٠٥- ١٢٥هـ/ ٧٢٣- ٧٤٤م)
تولّى الخلافة بعد موت أخيه «يزيد»، وامتدت مدة ولايته إلى قرابة العشرين عامًا. اشتُهر هذا الخليفة بحُسن التدبير والسياسة، والاهتمام بتعمير الأرض. تعاطف مع المَسيحيِّين وبخاصة قِبط «مصر»، وكان يراعى فى معاملتهم شروط العهد التى منح «عمرو بن العاص» القِبط إياها بعد فتحه «مِصر». عزل «حنظلةَ» من حكم «مِصر»، وولّى أخاه «مُحمد بن عبدالملك».
«مُحمد بن عبدالملك بن مروان» (١٠٥هـ/ ٧٢٤م)
بعد أن وُلِّى أمر «مِصر» حضر إليها، فوجد فيها وباءً شديدًا، فهرب إلى الصَّعيد، ثم عاد منه ليقضى فى «مِصر» نحو شهر من الزمان. ثم غادر إلى «الأردن»، حيث طلب إعفاءه من الولاية، فأعفاه أخوه. فتولّى «الحر بن يوسُف». وقد ذكر «الكِنْدىّ» أنه حين تولى «مُحمد» حكم «مِصر» من قِبل أخيه، قال له: «أنا لها، على أنك إن أمرتنى بخلاف الحق تركتُها، فقال: ذلك لك، فولِيَها شهرًا، فأتاه كتاب لم يُعجبه، فرفض العمل، وانصرف إلى (الأردن)»، و... وعن مصر الحلوة الحديث لا ينتهى..!
الأسقف العام، رئيس المركز الثقافىّ القبطىّ الأُرثوذكسىّ
نقلا عن المصرى اليوم
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع