نحن بلد أكل عيشه الكلام.. غير أن «صناعة الكلام» حققت طفرة كبيرة فى مصر خلال السنوات الأخيرة.. تأخرنا وتدهورنا فى كل الصناعات وتقدمنا فى «الكلام» حتى أصبحنا نحاول تصديره للعالم كله..!
الحكومة تتكلم فينا وعنا ولنا دون أن تحقق شيئاً على الأرض.. ونحن نتكلم فيها وعنها ولها وكأنها كيان واحد مع أن حكومتنا - بعكس حكومات البشرية - ليست «واحد صحيح».. الإعلام يتكلم ويتكلم ويتكلم، حتى طفحنا كلامه، وكأن «أصحاب صناعة الكلام» يدفعون الملايين لـ«وجه غبى بلسان بربنط» كى يجلس ويستربع أمام الشاشة خمس ساعات كل ليلة لينافق ويتملق السلطة، فتمتلئ خزائن أصحاب المصالح بالملايين والمليارات.. أنت نفسك - عزيزى المواطن - تأكل عيش بالكلام.. لا جهد.. لا عمل.. لا انتماء حقيقى.. ثم تسأل متعجباً: «هيه البلد بايظه ليه؟! فين الفلوس والعلاج والتعليم؟!»..!
الكل ينافق الكل.. لذا بات طبيعياً أن يصبح لـ«صناعة النفاق» رموز ونجوم.. أنت تلعنهم فى الصباح.. تلتقينى فى أى مكان أو تتحدث مع صديقك قائلاً: «وبعدين هو الإعلام وصل للهبوط والنفاق ده إزاى.. لازم حل».. ثم تجلس أمامه فى المساء لتتناول وجبة «إسفاف لذيذة على أذنيك وعينيك ومعدتك أيضاً: شوية فضايح.. على شوية مسخرة وضحك على حتة جريمة وعفاريت.. ومفيش مانع خناقة بين ضيفين تافهين».. وإن لم تشبع افتح «النت» واقرأ مقالاً يقطر نفاقاً وكذباً، لأن كاتبه «متطرف فى النفاق».. ونحن نهوى التطرف فى كل شىء..!
صناعة النفاق ازدهرت لأننا نستهلكه.. ليس لأنه مفروض علينا..!
السلطة والشعب سوق رائجة للمنافقين.. المنافق فى مصر الآن سياسى بارز وبرلمانى يجلس فى الصف الأول وكاتب يظهر فى كل الصور وإعلامى يحقق أعلى مشاهدة..!
لا أعرف ما إذا كان الحاكم - أى حاكم - يشاهد أو يقرأ ما يقوله ويكتبه منافقوه أم لا.. ولكن الثابت عندى أنه لا يحب أن يقرأ لمن يخالفونه أحياناً الرأى.. فأصوات المنافقين أكثر رقة وعذوبة فى آذان الحكام من صوت أم كلثوم وفيروز وسيدنا بلال بن رباح.. وكلماتهم تنفذ إلى قلوب الحكام أسرع وأقوى من سهم «كيوبيد»..!
سوق النفاق بها كبار وصغار.. الكبار لهم مدارس «لكل منافق طريقة».. والصغار عصاميون مجتهدون يتعلمون بدأب ومثابرة.. دعنا نبدأ بأنواع وأصناف «المنافقين الكبار»..!
منافق برتبة: هو تدرج فى النفاق من «أول درجة فى السلم».. بدأ حياته ماسحاً لبلاط الأجهزة الأمنية والسيادية.. يكتب التقارير عن زملائه، ويرضى بالفتات.. كلمة حلوة من ضابط صغير تكفى.. بعد الثورة والفوضى وجدوا له مكاناً فى «الإعلام».. فقد حصد الرجل ترقيات كثيرة حتى بات عميداً أو لواءً.. لا فرق.. المهم أنه لو رأى «صاحب سلطة» يدخل الحمام - لامؤاخذة - ينتفض من مكانه ويصرخ «بنفسك؟!.. معقولة؟!»..!
منافق برخصة: هذا النوع قدم الكثير ودخل اختبارات عديدة ليحصل على رخصة «مزاولة النفاق».. ظل فترة طويلة ينافق ويتملق بنظرية المبادرة.. يصرخ ويكتب كى يأخذوا بالهم منه.. وحين يمنحونه «الرخصة» يزداد نفاقاً ليثبت لهم أنه ليس أقل من «المنافق برتبة».. وإذا رأى «صاحب سلطة» يكح أو يعطس.. اتسعت حدقتا عينيه وصرخ «يا ريتنى جالى سرطان ولا جالك برد يا فندم»..!
المنافق «على كبر»: عاش الرجل حياته مجهولاً مغموراً بجنيهات معدودات.. كان يرى المنافقين يحصدون «الرضا والجوائز والمكافآت» فيمصمص شفتيه، ويتحسر على حاله.. تغيرت مصر.. راحت موجة وجاءت موجة.. فأدرك هذا النوع أن المنافقين القدامى «اتحرقوا».. لكل مرحلة نفاقها.. فشمر عن ساعديه.. وتطوع «منافقاً جديداً» ليلحق بالقطار حتى لو فى آخر «عربة» أو حتى فى «السبنسة»..!
المنافق المتطرف: شخصية مهزوزة ضعيفة وسطحية.. تتأرجح دائماً بين القناعات والمبادئ.. تبحث عن «بوصلة توجيه وإرشاد».. تنظر إلى المشهد فتراه ساخناً فى الاستقطاب والصراعات.. فتراها فرصة رائعة لـ«النفاق».. ولأن هذا النوع جاهل يبدو مثل «عبيط القرية» أو بالبلدى أكثر «بيخبّط فى الحلل».. إذا لمح فى عين «ذى سلطة» تبرماً من شىء ما.. انبرى إلى الضفة الأكثر تطرفاً: اقتل يا باشا.. ادبح معاليك.. الناس دى تستحق الدفن أحياء.. الشعب ده مش بيعرف يتحكم.. سيادتك كتير عليهم.. خلص عليهم وربنا سيكتب لك سبعين ألف حسنة على كل راس..!
المنافق الأهبل: لا يعرف هذا النوع أن «النفاق موهبة ومذاكرة».. فيقرر تقليد «المعلمين الكبار».. يخبط كلمتين على الهواء مباشرة أو يرزع مقال واتنين وعشرة ولسان حاله يقول: أنا هنا.. شوفونى.. والله أنفع.. ولكنه - للأسف - يصيب من يريد رضاه بخسائر فادحة.. هذا النوع من المنافقين لا يهتم به «صاحب سلطة».. غير أن الحفاظ عليه مع توجيهه يحتاج لموظف أو مسؤول صغير يتبناه حتى لا «يزروط الدنيا».. والمنطق هنا أن الرجل متطوع وعنده استعداد بس عايز صنفرة وشوية شغل..!
أنت تريد أن تعرف أنواع «المنافقين الصغار».. الأشبال يعنى.. لهذا حديث آخر.. فاصل وقد نواصل..!
نقلا عن المصري اليوم