فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر
تحية طيبة وبعد:
يسرني أن أكتب إلى فضيلتكم معلقاً على بعض ما جاء في حديثكم عن العلاقة بين الدين والحضارة، في مؤتمر الأوقاف الدولى حول تجديد الخطاب الديني ومواجهة الفكر المتطرف، والذي عقد بالأقصر الأسبوع الماضي.
لقد قلتَ فضيلتكم ما نصه: "وقد ثبت تاريخياً أن المسلمين حين أبدعوا وتحضروا وصدروا ذلك للعالم كله، كانوا يسندون ظهورهم إلى نصوص القرآن والسنة وتوجيهات الإسلام، وأنهم تراجعوا حين حيل بينهم أو حالوا هم أنفسهم بينهم وبين مصادر القوة في هذا الدين، بعكس حضارة الغرب التي أصابها الضعف والتفكك حين كانت ترفع لافتة الدين في القرون الوسطى. فلما تمردت على الدين وأدارت له ظهرها نمت وترعرعت فيما يُعرف بعصر النهضة أو عصر التنوير، وهذه مفارقة أو مقارنة لا ينبغي إغفالها في تميز الإسلام وقدرته الخارقة على صنع مجتمعات غاية في الحضارة العلمية والثقافية والفنية، وأن حضارة المسلمين مرتبطة بالإسلام ارتباطا معلولا بعلته توجد حين يوجد الإسلام، وتتلاشى حين ينحسر أو يغيب".
وحول هذه الفقرة من حديثكم لي بعض الملحوظات التي أرجو أن يتسع صدر فضيلتكم لها:
أولاً: من حقك كمسلم وكشيخ للأزهر أن تتحدث عن الحضارة الإسلامية كيفما تشاء وكيفما يروق ويحلو لك الحديث، وبالطريقة التي تراها مناسبة، فهذا حقك الذي لا ينكره عليك أحد.
ثانياً: تضّمن حديث فضيلتكم عقد مقارنة غير دقيقة بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية، فعند ذكرك للحضارة الغربية، قلت: إن حضارة الغرب أصابها الضعف والتفكك حين كانت ترفع لافتة الدين في القرون الوسطى، وبالطبع الدين المقصود هنا في كلام فضيلتكم هو "المسيحية"، وما يُفهم من كلام فضيلتكم في هذا السياق أن الغرب إنما تقدم بعدما أعرض عن المسيحية، وهنا تبدو المسيحية وكأنها ديانة تجلب التخلف على الإنسانية، وأنها هي السبب في تفكيك الحضارة الغربية، وهذا ليس صحيحاً على الإطلاق ياشيخنا الجليل، فالمسيحية تهدف أساسًا إلى نشر المبادئ والتبشير بالقيم الروحية من تسامح ومحبة وإخاء بين بني البشر، والمسيحية هي أساس حضارة المحبة والتسامح والغفران وقبول الآخر المغاير أياً كان لونه أو دينه أو جنسه أوجنسيته.
فالمسيحية تحترم الاختلاف وتؤمن بالتنوع وتحمي الحرية، وتدعو لحرية الاعتقاد والعبادة وحرية تغيير الدين والمذهب، وليس من المسيحية الدعوة إلى إهلاك الآخرين المغايرين دينياً وثقافياً وحضارياً، لذا كان يجب على فضيلتك، وأنت العالم الجليل، وأنت تتحدث عن الحضارة الغربية أن تفرق بين المسيحية في مبادئها السامية الراقية، وبين تصرفات رجال الدين في القرون الوسطى، فرجال الدين آنذاك ابتعدوا عن المسيحية وسموها، وحادوا عن تعاليم السيد المسيح الراقية، وقد سبق وأن أشدت فضيلتك في أحد البرامج التليفزيونية بموعظة السيد المسيح وقلت:" إني أتغنى بموعظة المسيح على الجبل وتدمع عيني وأنا أقرأها"، لذا كان يجب التفرقة بين المسيحية وبين تصرفات بعض المنتمين إليها آنذاك.
ثالثاً: ياعالمنا الجليل، إن حضارة الغرب لم يصبها الضعف والتفكك حين كانت ترفع لافتة الدين كما ذكرت فضيلتك، ولم تزدهر وتترعرع عندما أدارت له ظهرها كما قلت، ولكن حضارة الغرب في القرون الوسطى تحديداً تفككت حين كان الناس منقادين دون تفكير لرجال الدين، وازدهرت حضارة الغرب ونمت وترعرعت فيما يعرف بعصر النهضة لأنها فصلت الدين عن السياسة، ولأنها عزلت الدين عن أنظمة الحكم.
ونهضت الحضارة الغربية عندما تُرك المجال لإبداع العلماء دون وصاية عليهم من رجال الدين، إن المسيحية في جوهرها يا فضيلة الإمام تحترم العلم والعلماء، وتدعو لفصل الدين عن السياسة، فلقد علم السيد المسيح قائلاً: أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله، لذلك فإن المسيح في تعاليمه الراقية لم يضع تشريعاً معيناً، ولكنه وضع مجموعة من القيم والمبادئ التي تصلح لكل عصر ولكل زمان ومكان، فذات مرة طلب شخص منه أن يحصل على ميراثه قائلاً: "يا معلم قل لأخي أن يقاسمنى الميراث"، فأجابه السيد المسيح:"من أقامني عليكما قاضياً أو مقسماً ؟! ثم قال للكل:"انظروا تحفظوا من الطمع"، لقد وضع المسيح قانون ميراث المحبة والقناعة والتحفظ من الطمع قبل أى قانون آخر، ولكن بعد انتشار المسيحية، وبعد أن أصبحت هي الدين الرسمي للدولة، أضحت الكنيسة هي أكبر مالك للأرض.
وأصبحت قوة روحية وسياسية هائلة، ومن ثم استطاع بابوات الكنيسة أن يفرضوا سلطانهم على الدولة، حيث إن الحكام كانوا يكتسبون شرعيتهم من الكنيسة، وكان البابوات هم الذين ينصبون الأباطرة، وكانت الكنيسة إذا سحبت من الملوك هذه الشرعية، فإن الرعايا كان يجب عليهم السمع والطاعة دون نقاش أوجدال، وفي هذه الفترة المظلمة نستطيع أن نقول: إن أوروبا أصابها الضعف والتفكك، وجاء الإصلاح الديني نتيجة ما ساد كنيسة العصور الوسطى من فساد، ونتيجة ما انتشر فيها من شر، شمل رجال الدين وعامة الشعب.
وهنا يا فضيلة الإمام أعطى الناس ظهورهم لا للمسيحية الراقية السامية، ولكن لرجال الدين وللسلطة الدينية الفاسدة، ومن ثم أشرق عصر النهضة أو عصر التنوير أو عصر الإحياء، ففي ذلك العصر، غزا العقل البشري مختلف الميادين، وأصبح لا سلطان على العقل إلا العقل نفسه، وفي ذلك العصر ظهر المصلحون، وقال نبلاء الإنجيليين عبارتهم المشهورة:" we protest " أي أننا نحتج على الظلم، وعلى وضع القوانين الجائرة التي تعيق تقدم الفكر.
ومنذ ذلك الوقت ظهرت كلمة "البروتستانتية"، التي ترمز إلى القيادة والريادة في المناداة بحرية التفكير والتعبير، وحرية الاعتقاد، هذه الحرية التي فتحت أمام العالم باب الحضارة والتقدم في مختلف المجالات العلمية والثقافية والفنية، وأصبحت الحرية منذ ذلك الحين حقاً أساسياً تكفله دساتير العالم المتحضر. الحرية التي هي حق لكل إنسان سواء كان ضمن الأغلبية أو الأقلية بغض النظر عن دينه.
وانتهى زمن المحرمات الثقافية التي تعيق حرية الإبداع، وبدأ عصر التنوير، وعصر الإصلاحات الدينية، وبدأت العودة من جديد إلى مبدأ "اعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله"، وبقيام الثورة الفرنسية الكبرى عام ١٧٨٩ انتهت تمامًا فكرة الدولة الدينية في أوروبا، وتم الفصل بين الدين وأنظمة الحكم، مع تقرير حرية التدين والاعتقاد كحريات سياسية ودستورية، ولذلك فقد جانبكم الصواب يافضيلة الإمام عندما قلتم: "بأن حضارة الغرب أصابها الضعف والتفكك حين كانت ترفع لافتة الدين في القرون الوسطى".
وختاماً ياعالمنا الجليل، أظنك تتفق معي أنه لا تقدم ولا ازدهار لمصرنا الغالية ولعالمنا العربي دون إعمال للعقل في الموروث الديني، ودون إصلاح ديني مماثل لما حدث في الغرب، إصلاح ديني يتضمن غربلة الماضي وتنقية التراث وتنقية المناهج، ولا رقي لشعوبنا دون فصل تام بين الدين والسياسة وأنظمة الحكم، ولا حرية ولا إبداع دون أن يرفع رجال الدين في عالمنا العربي وصايتهم عن عقول البشر، ولا نهضة حقيقية دون أن يحل التفكير محل التكفير.
وختاماً تقبل خالص تحياتي واحترامي.
نقلا عن دوت مصر