لميسفجأة.. وجدت حفيدتى الصغيرة، التى لم تتجاوز الثانية من عمرها إلا ببضعة شهور، تهتف وهى تنظر إلى العلَم وتقول: «تحيا مثر»، أى تحيا مصر.. سألناها ماذا تقول، رددت ثلاث مرات مثل السيسى: تحيا مصر.. تحيا مصر.. ثم يحيا مصر.. أى بالمؤنث والمذكر.. دُهشت وفرحت وفكرت كثيراً: كيف كوّنت هذه الصغيرة العلاقة بين العلَم المصرى وبين مصر وهى لا تفهم معنى أى منهما.. ولا يوجد علَم من أساسه فى دار الحضانة التى تذهب إليها.. ربما رأت أحد الأطفال فى أحد الأماكن يحمل علَماً ويهتف، أو ربما قال أحدهم أمامها،
وربما.. وربما. أخذت أخمِّن وأنا سعيدة وتساءلت: هل هذه جينات متوارثة لدينا نحن شعب مصر؟ فنحن من أكثر شعوب العالم حباً لوطنه.. هل نولد نحن فى مصر حاملين لهذه الصفات الوراثية؟.. تذكرت فوراً، ولا تندهش عزيزى القارئ.. تذكرت محمد البرادعى..!! وأنا فى حيرة: هل فقد هذه الجينات العريقة التى تعود بنا إلى بدايات الإنسان بشكل عام..؟ وهل فقدُ هذه الجينات يُعتبر من العيوب الوطنية؟ أو مرض نقص الوطنية المكتسب.. هل يا تُرى هتف البرادعى طفلاً فى مدرسته الصغيرة فى كفر الزيات صباحاً وقال: تحيا الأمة المصرية كما كنا نهتف زمان؟ هل غنى مع الأطفال فى المرحلة الابتدائية نشيد الصباح: «اسلمى يا مصر إننى الفدا.. ذى يدى إن مدت الدنيا يدا.. لك يا مصر السلامة وسلاماً يا بلادى».. هل غنى فى مدرسته الثانوية بعد تحية العلَم نشيد «الله أكبر فوق كيد المعتدى» الذى غنيناه بعد حرب 1956 فى مدارسنا.. هل وقف حباً قبل الاحترام لنشيد بلادى.. السلام الوطنى.. هل دندن بمفرده كلمات هذا النشيد الفريد.. هل يعرف صاحب هذه الكلمات الموحية.. هل قرأ شيئاً عن مصطفى كامل هذا الشاب الوطنى الذى سافر هائماً فى عواصم أوروبا ليشهِّر بالاستعمار الإنجليزى بعد حادثة دنشواى ولم يتحمل قلبه الضعيف ذلك المجهود المضنى فمات قبل أن يُتم عامه الرابع والثلاثين..
وقبل أن يموت بيومين طُرد اللورد كرومر المعتمد البريطانى من مصر بسبب ما فعله مصطفى كامل.. وقبلها بشهر تقريباً كان يخطب فى الشباب ويقول: بلادى بلادى.. لك حياتى ووجودى.. لك دمى.. لك عقلى ولسانى.. لك لبى وجنانى فأنت أنت الحياة ولا حياة إلا بك يا مصر». هل يذكر البرادعى يوماً لعب فيه بالكرة الشراب فى حوارى كفر الزيات فى ليالى الصيف أو بعد نهاية اليوم الدراسى.. هل يذكر يوماً جلس فيه على شط النيل.. هل استمع إلى أم كلثوم أو عبدالوهاب وهم يشدون بحب الوطن، ألم يقض أياماً فى الجامعة مع زملاء حفظ لهم بعض العهود والود.. يا تُرى هل زار أم هاشم يوماً وأوقد لها الشموع.. هل تناول الفول من على عربة صغيرة فى أحد شوارع بين السرايات، حى الطلبة قديماً.. ألم يتنزّه فوق كوبرى أبوالعلاء أو كوبرى الجامعة.. هل تنزه يوماً فى حديقة الحيوان أو الأورمان.. هل جلس يوماً ذاهلاً متأملاً فخوراً أمام الأهرامات.. هل سرح بفكره فى وجه أبوالهول هذا الشاهد الصامت على مدى خمسة آلاف عام يقاوم سرقة تاريخه وتاريخ وطنه وأسماء صانعيه من بعض المخرفين اليهود والأوروبيين.. هل تناول إفطاره فى رمضان مرة فى حى سيدنا الحسين ثم صلى المغرب داخل مقامه وقرأ له الفاتحة ثم تناول الكركاديه والمهلبية والشاى بالنعناع على مقهى الفيشاوى، هل حزن معنا وقاسى معنا وتوحد معنا بعد هزيمة يونيو 1967..
هل خرج مثلنا إلى الشوارع يوم أن تنحى عبدالناصر وصرخ معنا «هنحارب».. هل تمنى أن يصحو ذات صباح على أخبار الحرب مثلنا كما صحونا يوم السبت السادس من أكتوبر فى 1973.. أليس له أقرباء وأجداد وأعمام واراهم التراب فى أرض مصر.. ألا يذكر مثلنا «عظم التربة» ويقسم به كما كان يقول آباؤنا لنا.. ألا يعرف معنى أن يغترب المصرى بعيداً عن وطنه ويعيش الغربة والوحشة ويذوب حنيناً للعودة.. ألم تدمع عيناه يوماً فى بلاد الثلج عندما سمع عبدالحليم يشدو «وان لاقاكم حبيبى.. سلموا لى عليه.. طمنونى الاسمرانى عاملة إيه الغربة فيه».. ألم تترك داخله سنوات عمره على أرض مصر أى ذكرى حميمة تثير فى نفسه الشجون والحنين إلى شوارعها وأهلها الطيبين الصابرين.. ماذا يكون إحساسه عندما يرى العلَم المصرى عالياً يداعبه الهواء.. ألم يشعر فى لحظة أنه يريد أن يصرخ فى عفوية قائلاً: «تحيا مصر».. ألا يعرف معنى أن يموت المصرى خارج وطنه على أرض غريبة باردة.. أرض غربته ومقر هجرته.. ألم يأكله الخوف منذ أيام يناير على مصر التى كانت تحترق وتُخترق وتهدد وتتفتت وتذوب فى الفوضى وتُحتل من جماعة من الموتورين. هل نام ملء جفنيه مطمئن البال.. أسئلة كثيرة وتساؤلات كثيرة كانت تداعيات لهتاف الحفيدة الصغيرة «تحيا مصر».. وهى تداعيات حزينة.. حزينة أنا فعلاً، حزينة عليك يا برادعى.. فمصر هى الحياة ولا حياة إلا بها.
نقلا عن الوطن