(1)
حيث إن فى رؤوسنا مخاً وليس مهلبية، يجوز لنا أن نمارس نعمة التفكير، والتفكير مشتق من الفكر، والفكر هو نشاط ذهنى للوصول إلى معلوم، وقد يقودنا إلى أخطاء شائعة وربما إلى صواب مهجور، والموضوع الذى أدعو لإعمال العقل فيه حتى لا يصبح نهباً لاجتهادات تضر أكثر مما تفيد، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بكيان مؤثر فى حياتنا اسمه: الشرطة، والأمن عموماً ليس مستحباً فى كل الأزمنة، والحس الشعبى المصرى يقول «إن كان دراعك شرطة، اقطعه»! وفى الصحف الآن وبعض الشاشات وكثير من مواقع التواصل كلام محتبس فى الصدور عن تجاوزات الأمن يصل إلى درجة سخونة الاحتباس الحرارى الذى صار مثار زعماء الكرة الأرضية، هذا الاحتباس الحرارى الكامن فى النفوس يهدد بأخطار جمة نسيناها فى زحمة مشاعرنا الغاضبة من الشرطة ولعل أهمها سقوط هامة الشرطة التى جاهدنا بعد ثورة يناير لاستعادة كبريائها لا تكبرها، وهناك فرق بين الكبرياء والتكبر، فالأول هيبة والثانى إحساس ممجوج، جاهدنا طويلاً حتى يعود لرجل الشرطة فى الشارع احترامه، وكنا نعلم مادام فى رؤوسنا عقول أن هدف الإخوان بعد أيام من «الثورة» هو كسر شوكة الأمن وضربه فى مقتل وتسويد وجهه، وإلصاق كل الاتهامات به وعلى الأخص فى موقعة الجمل التى ثبت بعد محاكمات عسيرة براءة رجال الأمن، وقد شهدت مصر فوضى عارمة يضرب بها الأمثال من بلطجة وسرقة ونهب وسلب وخطف أطفال، فقد هرب من سجون مصر عدد هائل بعد اقتحامها، وأظن أن أبواب بيوت مصر شهدت أبواب الحماية الحديدية التى لم أرها عشية يناير الشهير يوم حريق القاهرة، فقد رأيت السلب والنهب، والغريب أن غياب الشرطة فى زمن الثورة الإخوانى، كان مخططاً له بدليل حرق أقسام الشرطة فى وقت واحد، كان زمناً رديئاً بكل المقاييس، ولكن نجيب محفوظ كشف لنا آفتنا وهى النسيان، فقد نسينا أننا كنا فى حالة تشرذم وتوهان وانكسر كل شىء: العمل والبناء والسياحة والرياضة والتعليم، لأن المطلب الوحيد حينذاك كان عودة الأمن والأمان، وقولوا ما شئتم عن زمان مبارك ولكن الوزير المحترف الحازم الحاسم حبيب العادلى جعل الأطفال يلعبون الكرة بالليل ولم يلجأ صاحب بيت لتركيب باب حديد فى عهده، وأرادوا إحداث فتنة فنسبوا إليه أنه كان وراء حادت كنيسة القديسين بالإسكندرية فمقتل مصر فى الفتن الطائفية، ولكن المحكمة برّأت ساحته.
أريد أن أصل إلى عقولكم حيث إنها «أمخاخ» وليست مهلبية، إنه مازال هدف الإرهاب الذى نتصدى له ونحاربه بكل قوانا، هو نفس الهدف القديم «تركيع» الشرطة وضربها بحيث تصل إلى مرحلة الشلل، لهذا أنزعج عندما تقع بعض الأقلام فى الفخ وتنبرى لتكتب ضد الداخلية وتهدد وزيرها بأن الطوفان قادم!!
(2)
فهل - يا عقلاء - إذا قطع طبيب جراح ساق مريض سليمة بدلاً من المريضة واجبة البتر، اتهمنا كل جراحى البلد بالإهمال؟!
وهل - يا عقلاء - إذا باع موكلك المحامى لمحامى الخصم، فهل معنى ذلك نتهم كل المحامين بالنصب؟!
وهل - يا عقلاء - إذا أثبتت التحقيقات أن صحفياً استغل المهنة فى صفقات مشبوهة، فهل نلصق الاتهام بكل الصحفيين؟
وهل - يا عقلاء - إذا تجاوز ضابط شرطة حدود وظيفته واعتدى بالسلاح أو بالضرب على مواطن، فهل نتهم كل ضباط الشرطة بأنهم أوغاد...؟
القضية أننا «نعمم» البلاء ولا نحصره فى مرتكبيه، وحين نعمم نقول الداخلية والحكومة، وأتوقف هنا لأذكر ثلاث نقاط مهمة.
الأولى: أننى لا أدافع عن الشرطة، فقد وصفت تصرف غزوة الأمن الوطنى على موقعة منيل شيحة بأنها «توريط» للنظام وليس هناك أسوأ من هذا السيناريو الفاضح الذى كان يريد أن يقول «هه. أنا هنا»، وكان يريد أن يخيفنا بالملثمين زوار الفجر.
الثانية: أنى أنحاز لأمن بلدى وأدعو لمحاسبة المقصرين ومحاكمتهم فى المحاكم عن جرائمهم وفى نفس الوقت أدعو إلى «محاكمات تأديبية» لأى رتبة.
إن هناك محاكمات تجريها وزارة الداخلية بكل جدية والصحافة لن تسكت بشرط حصر الجرائم فى أشخاصها دون توسيع الدائرة لتشمل كل الضباط والأمناء.
ولكن ليس من المعقول أن أنسى 64 شهيداً بين ضابط وأمين ترملت نساؤهم صبيحة فض رابعة، وليس من الأمانة أن أتجاهل 114 شهيداً من أبناء الشرطة راحوا فى الفترة ما بين 14/8 و31/8 خلال معركة رابعة الحربية!
وليس من المعقول أن أنسى الشهداء الذين يسقطون فى الكمائن على الطرق حيث تفاجئهم طلقات رصاص الغدر، هذا غير إصابات العجز التام وعددهم لا يستهان به، وتشهد عليهم عنابر المستشفيات وهم معاقون يا ولدى!
شرطة مصر - المغضوب عليها من البعض - هى التى تجهض مخططات الإرهاب بالفوضى الشاملة، وخذوا من تجربة الانتخابات البرلمانية التى كان مرصوداً لها مبالغ بالمليارات لإسقاط الدولة وتشويه الاستحقاق الأخير من رحلة مضنية، وكيف تمت العملية بهدوء صنعته قوة جيش مصر ويقظة شرطة مصر، شرطتنا هى التى بأجساد رجالها تلقن الإرهاب دروساً، ولا أملك أن أتكلم عن نقائص أمنية بعد كل عملية مثلما يفعل السذج ويتصورون أنهم «مهندسو الأمان»، لا يا نور عينى الإرهاب الغادر أمهر من ضحاياه، حتى فى أمريكا بلد العدسات وبصمة الصوت والأتباع المزروعين فى العدو، فى أكبر بلاد العالم يختلس الغدر لحظة ويفجر نفسه مثلما حصل فى فندق القضاة بالعريش، وليس معنى هذا أن نكف عن حساب الشرطة عند تقصيرها فحادث النائب العام كان فيه تقصير.
من هنا، لا أقف فى صف الشرطة بسذاجة وأطبطب، إننى - فى لحظات مصيرية فى حياة مصر - لا أصوب قذائفى على شرطة بلدى وأحاكم المقصرين والمعتدين بلا هوادة، بل أتابع المحاكمة الجنائية والتأديبية بلا ملل أو كلل.
(3)
إن «حقوق الإنسان» ترتكب أخطاء حضارية، إذ تستغل الأخطاء والتجاوزات فى التشهير فى حضرة أعدائنا فى الداخل والخارج، وعندما نقول شرطة مصر، فإننا نتكلم عن جبهتنا الداخلية التى يجب أن تظل مرفوعة الرأس والقامة، إن للإعلام «مواقف وطنية» إزاء بعض أزمات مصر، منها حادث الطائرة الروسية، وحادث المكسيكيين وسيول إسكندرية وأزمة المحامين، من هنا فإن المطالبة الجادة بتدعيم الشرطة ليست ترفاً شعورياً فهى الخط الإيجابى لمصر بشراكة الجيش، عندما أطلب الواقعية والحكمة فى معالجة أزمات الشرطة مع المواطنين فلابد من فهم كل أبعاد الصورة وظلالها. إن كل اتهام يوجه للداخلية هو كرباج على ظهرها فى يد الإرهاب الغادر، إن الداخلية تفصل وتنزع الرتب وتحيل للاحتياط، ولا تتستر على أحد، وما عاد فى مصر تستر أو تهويم. فالمفهوم أن الداخلية مستهدفة من ليلة 25 يناير سنة 2011 حتى الآن، والعقل يقول كيف أضرب أمن بلادى الذى يموت فى سبيلى، حقاً إن الشرطة تعمل فى حقل الشيطان مع مافيا الإجرام، بل أحياناً يوقعون برجال الشرطة بوسائلهم الداهية، إن الضغوط التى يعمل فى ظلها رجال الشرطة من ساعات طويلة تفوق المعدلات الطبيعية جعلت منهم «آلات»، ومعظمهم يشتاق إلى ساعات نوم بلا قلق مجنون، هذا الضغط مؤثر على الأعصاب واسألوا أطباء النفس ولست أبرر للضباط ارتكاب تجاوزات ولكنى أقدم لمحة من الظروف التى يعملون فى ظلها، إن الحوادث الشهيرة محل المؤاخذة فى الأقصر والإسماعيلية وأكتوبر، وهى وقائع مصورة، علماً بأن الأخطاء لن تنتهى ولكن يبقى أن نحافظ على شعلة التحدى لإجهاض مخططات عالمية ومحلية لضرب قوة أمن مصر وإنهاك جيش مصر.
وعندما رأيت مظاهرة حملة الماجستير والدكتوراه تأسيت على شباب متعلم مثقف يقبض عليه، إنها أخطاء دولة ووزارات تتحملها الداخلية، أين مجلس الوزراء؟ أين وزارة التعليم العالى؟ أين المجتمع المدنى؟ أين الاحتواء والأبوة الحانية؟ أين العمل السياسى الممنهج أمام أزمة؟ أين العقول القادرة على التعامل مع الغضب دون اللجوء للحل الأمنى؟
(4)
هذا هو قمة المناخ السيئ فى المجتمع، حين تتجمع سحب الغضب فى سماء المدينة على الشرطة، وتستنسخ ما جرى بالأمس وتصبح السحابة السوداء هى ذلك الضجر المخبأ بين ضلوع الناس حول تجاوزات جهاز مهم من حماة الوطن.
وظنى أن هذه السحب القاتمة تنقشع من سماء المدينة بخطوات محددة بعقلانية لا بشطارة علاقات عامة.
أولاً: أن نحيط الرأى العام أولاً بأول بنتائج التحقيقات مع المتجاوزين من الضباط والأمناء والأفراد.
ثانياً: أن نكف - كإعلام مرئى ومكتوب - عن الخوض فى موضوع التجاوزات والسلبيات، فقد علّمنا سلامة موسى أن انشغال المجتمع بموضوع ما ليل نهار يجعله من ثوابت حياتنا الوجدانية، إن جهاز الشرطة الذى يحمل أعباء كثيرة، من الوارد حدوث سلبيات به ولكنها ليست الأعم.
ثالثاً: لابد من دورات لأقسام الشرطة يعقدها مديرو الأمن فى محافظات مصر حول النموذج الأمثل فى التعامل مع الشارع المصرى، ولابد من تقنين التجاوز ومداه، ومتى نطلق على هذا السلوك أو ذاك تجاوزاً، إن قاضى التحقيق فى ألمانيا أو فى النمسا هو الوحيد الذى يقرر أن سلوك الضابط اتسم بعنف مقصود من عدمه، الإعلام الألمانى لا يتطوع ولا يبادر بالاتهام قبل تقرير قاضى التحقيق، والرأى العام يستريح لهذه الصيغة وعندنا - فى مصر - يجلس الرأى العام مكان القاضى!
رابعاً: إن اليقظة فى الشرطة المصرية حاضرة وجاهزة، والمشكلة هى فى «النَفس الطويل» للمواجهة والمجابهة والتحدى، فقد ثبت من حوادث عدة أن الإرهاب استغل «لحظة استرخاء» وضرب ضربته، وفى أمريكا رأيت بنفسى الدوريات الراكبة المسلحة تتغير كل أربع ساعات، ودول الاتحاد الأوروبى كل 6 ساعات.
خامساً: إنى أرفض تماماً ضرب الضابط بكفه على قفا أى إنسان حتى المتهم وبالتالى فالتعذيب مرفوض تماماً، وإذا ثبت التعذيب فهذا تجاوز ممجوج يستحق العقاب، ولكن من المهم أن نتناول كل حادث تجاوز على حدة ونفهم بواعثه وظروفه وملابساته لنكون أمناء فى أحكامنا وقبل كل شىء أحكام القضاة.
سادساً: مرة أخرى الشرطة المصرية تعمل فى حدائق الشيطان وتتعامل مع أصناف من البشر ليسوا ببشر.
ولا شىء يقلقنى قدر قمة مناخ الغضب من الشرطة فى مصر، فهى أحد أضلاع مثلث أمن الإنسان المصرى: الجيش والشرطة والقضاء، ولن ينكسر أى ضلع من الأضلاع الثلاثة.
مفهوم؟!
نقلا عن المصري اليوم