في الفسحة الإجرائية التي شهدتها هذه الانتخابات ستظهر القوى "الحقيقية" في سياسة مصر، لا ينقصها إلا الإخوان المسلمون. حين أقول القوى الحقيقة فإنما أعني أنها الحقيقية في هذه اللحظة من الزمن. القوى التي تعبر عن "المصلحة السياسية الأهم" بالنسبة لكل ناخبة وناخب، حتى لو كانت المصلحة السياسية الأهم هي الحصول على ١٠٠ جنيه ثمنا لصوت.
نعم. لو حسبتها المواطنة فوجدت أن الـ ١٠٠ جنيه أهم لها من أي مصلحة سياسية أخرى يمكن للمرشحين أن يعودوا عليهم بها، فهذا شيء حقيقي. حقيقي لهذه الدورة من الانتخابات، قد يتغير الدورة المقبلة، أو التي بعدها، قد يزداد انتشارا قد يضمحل. وقتها سننظر مرة أخرى لنرى "الحقائق" التي أفرزها الحدث الجديد.
النعوت دائما خداعة، ونعت "الحقيقية" بالذات من أكثر النعوت الخداعة في الخطاب العام. إذ إنها توحي بأن ما سواها غير حقيقي، أو زائف، وهذا - بالمعيار السياسي - هراء طبعا، فكل ما هو موجود على أرض الواقع حقيقي. وفي السياق الانتخابي فإن كل صوت صوت "حقيقي"، بغض النظر عن دوافع تصويته. كون الشيء حقيقة لا يجعل له فضلا على أي شيء آخر، إلا لو كان الآخر وهما.
وفي السياسة بالذات، كثير من الأوهام تفضل الحقائق جمالا، فإذا بالشابة اليافعة تسمي الوهم حقيقة، لأنها تتمناها كذلك، وتسمي الحقيقة زيفا، لأنها تتمناها كذلك.
هل النائب توفيق عكاشة حقيقة أم زيف؟ هل النائب سعيد حساسين حقيقة أم زيف؟ هل النائب مرتضى منصور، رئيس نادي الزمالك، وابنه النائب أحمد مرتضى منصور، عضو مجلس إدارة نادي الزمالك، حقيقتان أم زيف؟
النائب توفيق عكاشة حصل على عدد من الأصوات في دائرته هو الأكبر في مصر كلها. وبالتالي فبالنسبة لهذه الجماهير وملايين غيرها من متابعيه هو "الحقيقي". حقيقي - سياسيا - أكثر من معارضيه الذين إما يخافون من دخول الانتخابات، أو إذا دخلوا لم يحصلوا إلا على أصوات قليلة جدا، تكاد تجعلهم غير مرئيين سياسيا.
لكن طائفة من النشطاء، المطالبين بأن تكون ديمقراطية، يتصرفون مع الموضوع كما يتصرف الأطفال حين يكتشفون "حقائق" الحياة، واحدة بعد أخرى، ويفضلون في كل مرة لو استمروا في الوهم. بل ويعيرون "الناخبين" بنتائج انتخابهم.
حين قال عمر سليمان إن الديمقراطية قادمة، لكن متى. كنا نعتقد أنه يقصد جموع الشعب الأمي، الغائب سياسيا منذ عقود. لكننا اكتشفنا أن الحاجة إلى الخبرة السياسية لا تخص هؤلاء فقط، إنما تخص أيضا - وبصفة أوضح - هؤلاء المتعلمين، الذين لا يعرفون حتى الآن الفارق بين ما يمكن أن ننعته "حقيقيا" وما يمكن أن ننعته "أمنية".
كثير من هؤلاء أنفسهم، الذين يعيرون الناخبين على شكل أول برلمان بعد ٣٠ يونيو، لا يتذكرون شكل برلمان ٢٥ يناير. لا يتذكرون "حقائق" برلمان ٢٥ يناير. بل إن كثيرا من هؤلاء الساخرين من توفيق عكاشة نسوا أنهم انتخبوا، ونشطوا في الدعوة إلى انتخاب، محمد مرسي. بمرشده بنائب مرشده بجماعته. وعابوا على وعيروا كل من اختاروا اختيارا آخر.
أي أنهم - أيضا - كانوا يعتبرون اختيار مرسي هو الاختيار "الحقيقي".
من هذا نعلم أصل الخبث في استخدامهم لنعت "حقيقي". أصل الخبث أنه نعت يستخدمونه لوصف كل ما يعتقدون فيه. أصل الخبث أن "الحقيقية" مبعثها بالنسبة لهم خروجها من أفواههم، ليس هناك معيار آخر يقيسون عليه. انظري إلى المناسبات التي يقولون فيها عبارة "الشعب الحقيقي" وتلك التي يقولون فيها عبارة "الشعب ابن الـ… ". في كلتا الحالتين يصفون نفس الشعب.
باط هوين!!! الديمقراطية والاستثمارية (الرأسمالية) ستكونان المآل في مصر. وهذه الانتخابات الأخيرة، بما فيها من تعبير عن مصالح من يحرصون على التعبير عن مصالحهم، خطوة مهمة جدا في ذلك الطريق.
مبروك للنواب الجدد.
نقلا عن دوت مصر