رغم الضغوط المتزايدة فى العراق وسوريا، تسابق داعش الزمن كى تحيل ليبيا إلى قاعدة ارتكاز تنطلق منها جرائمها الإرهابية ضد مصر على وجه خاص وضد أمن دول شمال أفريقيا، تونس والجزائر والمغرب، ومركز لتخطيط عملياتها المشتركة مع منظمة بوكو حرام فى نيجيريا والنيجر وتشاد ومالى، ونقطة انطلاق استراتيجية تمكّنها من تهديد أمن البحر الأبيض والأمن الأوروبى لدول الجنوب ابتداء من فرنسا وإيطاليا إلى اليونان وإسبانيا بما فى ذلك قبرص ومالطا، وجسر فوق المتوسط يمكّن مقاتليها من الانتقال ما بين ساحة المعركة المتقدمة فى العراق وسوريا وفنائها الخلفى فى ليبيا التى يمكن أن تشكل عمقاً لعملياتها فى دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وجنوب أوروبا، فضلاً عن أن داعش تعتقد الآن أن ليبيا تشكل أفضل البدائل لمقر خلافة أبوبكر البغدادى إذا اشتدت الضغوط العسكرية على مدينة الرقة السورية وأصبح ضرورياً أن ينتقل الخليفة إلى عاصمة جديدة أكثر أمناً!.
وتملك داعش فوق الأرض الليبية إمكانات لوجستية عالية وبنية أساسية تزداد اتساعاً وقوة، تمكّنها من تنفيذ مخططها الليبى بعد أن حققت سيطرتها الكاملة على مدينة سرت ذات الإمكانات المتعددة التى أقامها العقيد القذافى على أمل أن تصبح سرت عاصمة لاتحاد الدول الأفريقية بعد أن خاب أمله فى وحدة عربية يقودها! وبعد أن عززت داعش وجودها فى مدينة درنة على مسافة 70 ميلاً من الحدود المصرية، وتحاول السيطرة الآن على مدينة أجدابيا الاستراتيجية الموقع وسط الساحل الليبى تربط شرق ليبيا وغربها، ويقع فى جوارها أهم حقول البترول الليبى وأكثرها ثراء، كما أن أجدابيا هى الأكثر قرباً ونفاذاً إلى موانى شحن البترول الليبى إلى الخارج. ولو أن الهجمات العسكرية المتتابعة التى تقوم بها داعش على مدينة أجدابيا نجحت فى السيطرة عليها، فذلك يعنى باختصار سيطرة داعش على ثروة ليبيا البترولية التى تشكل واحداً من أهم أهداف داعش الاستراتيجية بعد أن فقدت 75% من حجم البترول الذى كانت تسيطر عليه فى سوريا نتيجة القصف الروسى المتواصل لحقول النفط فى مناطق دير الزور والحسكة، إضافة إلى تدمير بعض المصافى التى كانت تمكّن داعش من بيع البترول فى السوق السوداء عبر الأراضى التركية، من خلال أسطول ضخم من الشاحنات يتجاوز عدده ألف شاحنة، نجح القصف الروسى فى تدميرها على الطريق بين حلب وتركيا.
وفضلاً عن هذه الإمكانات اللوجستية تسيطر داعش على عشرات المعسكرات التى حوّلتها إلى مراكز تدريب لمقاتليها، كما تسيطر فى أقصى الغرب على مدينة سبراطة على مسافة 60 ميلاً من الحدود التونسية التى انطلقت منها عمليات الهجوم على مدينة سوسة التى قتلت فيها داعش 48 سائحاً بينهم 30 بريطانياً، كما انطلقت منها عملية الهجوم على متحف باردو وسط العاصمة التونسية، وكذلك العملية الأخيرة التى استهدفت حافلة تقل ضباط وجنود حرس الرئاسة التونسية وقُتل فيها 12 ضابطاً.
لكن تبقى مدينة سرت الجائزة الكبرى فى حوزة داعش إلا أن تنجح، لا قدر الله، فى الاستيلاء على أجدابيا، لأن سرت تضم الميناء وقاعدة جوية هى الأضخم فى ليبيا، كما تضم قصر المؤتمرات الذى بناه العقيد القذافى ليصبح مقراً لاتحاد الدول الأفريقية، ترتفع فوقه الآن رايات داعش السوداء، وتستخدم ساحته الخارجية على ساحل البحر الأبيض لتنفيذ عمليات قطع رؤوس ضحاياها كما فعلت مع 24 قبطياً مصرياً دون ذنب أو جريرة.. وتحكم داعش سرت بالحديد والنار، تحرّم على مواطنيها مغادرة المدينة كى لا يهرب أحد منهم خارجها، وتفرض عليهم إطالة اللحى وتقصير الجلباب، كما تفرض على النساء ارتداء الملابس السوداء، وتمنع إذاعة الموسيقى، وتجبر أئمة المساجد على الدعاء بنصر الخليفة أمير المؤمنين أبوبكر البغدادى!. وعندما انتفض خلال الصيف الماضى أحد أحياء مدينة سرت ضد استبداد داعش وظلمتها، دمرت داعش الحى بأكمله وفجّرت المستشفى الذى انتقل إليه بعض الجرحى، وقتلت داخله 22 مريضاً حرقتهم أحياء عقاباً على تمردهم!.
وبرغم تقرير أخير للأمم المتحدة ينبّه المجتمع الدولى إلى خطورة مخططات داعش للاستيلاء على ليبيا، والاحتمالات المتزايدة لهجرة مقاتليها وكوادرها من العراق وسوريا إلى ليبيا تحت ضغوط العلميات العسكرية التى تجرى هناك، آخرهم 800 مقاتل ينتمون إلى فرقة جيش الخليفة وقوات البادية والفرقة الباترة، وصلوا إلى ليبيا قبل أسابيع قليلة ليعززوا قدرتها العسكرية على الاستيلاء على مدينة أجدابيا، إضافة إلى أجراس الإنذار التى تدقها مصر بين الحين والحين، تنبّه المجتمع الدولى خاصة الدول الأوروبية إلى خطورة ما يجرى فى ليبيا.. رغم كل ذلك تتعامل الدول الأوروبية ببرود شديد مع الأزمة الليبية، مع أنها تشكل تهديداً مباشراً لأمن البحر الأبيض والأمن الأوروبى.
صحيح أن وزير الدفاع الفرنسى جان إيف لودريان حذر الأوروبيين علانية من أن تصبح ليبيا قاعدة جديدة لإرهاب داعش بعد سوريا، كما حذر الأفارقة من خطورة التعاون المتصاعد بين منظمتى داعش وبوكو حرام، فإن الأوروبيين لم يحركوا ساكناً باستثناء بعض عمليات القصف الجوى المحدود التى قامت بها الطائرات الفرنسية والأمريكية لأهداف منتقاة لا تؤثر كثيراً على قدرة داعش العسكرية، بدعوى أن الأولوية ينبغى أن تكون لجهود المبعوث الدولى برناندينو ليون فى محاولته تشكيل حكومة وحدة وطنية تلم شتات ليبيا لمواجهة داعش، لأن ما أغرى داعش على التوسع فى ليبيا هو الفوضى الواسعة التى ضربت أطنابها فى البلاد بعد أن أنهى حلف الناتو عملياته هناك وسقط حكم العقيد القذافى فى أكتوبر عام 2011، وترك الناتو ليبيا خراباً بعد أن أصبحت دولة فاشلة تحكمها عصابات مسلحة من كل لون وملة، أبرزها أنصار الشريعة التى خرجت داعش من معطفها بعد حرب أهلية خربت البلاد وفككت كافة مؤسساتها المالية والاقتصادية والأمنية، وتسببت فى تهريب كميات ضخمة من الأسلحة عبر الحدود إلى مصر لتصل إلى أنصار بيت المقدس فى سيناء وحماس فى قطاع غزة.. والأكثر مدعاة للأسف روح العداء غير المفهوم التى يكنها الغرب والأمريكيون لجهود اللواء حفتر فى تجميع بقايا الجيش الليبى وإعادة تجهيزه للحرب على جماعات الإرهاب! ورفضهم تسليح الجيش تحت قيادة حفتر رغم أنه المؤسسة الوحيدة فى البلاد القادرة على القيام بعمليات برية تحاصر مواقع داعش وتصفيها!
ولا يبدو واضحاً حتى الآن إن كانت جهود المبعوث الدولى برناندينو سوف تكلل بالنجاح، وتنهض فى ليبيا حكومة وحدة وطنية قوية، تتوافق فيها كل الأطراف المتصارعة على تكتيل جهودها للحرب على داعش، لكن ما يبدو واضحاً وضوح بزوغ الشمس من الشرق، جهود داعش المستمرة لتحويل ليبيا إلى قاعدة للإرهاب، تهدد أولاً أمن مصر كما تهدد دول شمال أفريقيا وأمن البحر الأبيض والأمن الأوروبى.. ولا أظن أن مصر تحتمل المزيد من تلكؤ الآخرين إلى أن تجد أمنها مهدداً من المشرق والمغرب، تحاصرها داعش بفكيها، أحدهما فى سيناء حيث تتواصل عملية حق الشهيد، تلاحق بقايا أنصار بيت المقدس الذين لا يزالون يعتمدون على أنفاق غزة فى تهريب المؤن والذخائر والرجال، كما يعتمدون عليها فى عمليات هروبهم التكتيكى بعد كل جريمة يرتكبونها، والثانى فى ليبيا لو أصبحت لا قدّر الله قاعدة أساسية تنطلق منها جرائم داعش ضد مصر، كما تنطلق ضد تونس والجزائر خاصة إذا نجحت داعش فى الاستيلاء على مدينة أجدابيا، وتمكنت من ثروة ليبيا البترولية التى يمكن أن تضفى على داعش قوة ضخمة.. وما من خيار آخر أمام مصر سوى أن يكون لها استراتيجية جديدة لا تكتفى بالانتظار خلف خطوطها الدفاعية إلى أن يبدأ عدوان داعش، وإنما تسبقه بتخطيط استرتيجى يجتث خطر داعش فى مهده، منفردة أو من خلال جهد عربى مشترك مع الجزائر وتونس والمغرب، أو عبر تحالف عربى غربى تشارك فيه دول جنوب أوروبا، إيطاليا وفرنسا وإسبانيا واليونان، ومهما تكن الخيارات المطروحة فإن الحقيقة الناصعة التى لا تحتمل أى لبس أو جدل فهى أن مصر لا ينبغى أن تكون محاصرة بين فكى داعش فى سيناء شرقاً وفى ليبيا غرباً.
نقلا عن الوطن