الأقباط متحدون - هذا نجيب محفوظ.. وهذه جدتى
أخر تحديث ١٩:١٧ | السبت ١٢ ديسمبر ٢٠١٥ | ٢ كيهك١٧٣٢ ش | العدد ٣٧٧٤ السنة التاسعة
إغلاق تصغير

هذا نجيب محفوظ.. وهذه جدتى

فاطمة ناعوت
فاطمة ناعوت

حين شاهدتُ نجيب محفوظ لأول مرة فى حياتى، كنت حول التاسعة من عمرى ربما. كان ذلك فى كازينو "قصر النيل"، الذى اعتادت أمى أن تصحبنا إليه، أخى وأنا، لكى تكافئنا بكأسين من "الكاساتا المثلجة".

أومأت أمى صوب إحدى الطاولات البعيدة وقالت: "اللى قاعد هناك ده نجيب محفوظ، الكاتب الكبير". شببتُ على أطراف أصابعى لأميّزه بين مجالسيه الذين سأعرف بعد ذلك بسنوات أنهم الحرافيش.التقطتْ عيناى تلك "الزبيبة" الكبيرة على يسار أنفه، فيحاول عقلى الطفل أن يربط بين "الزبيبة الكبيرة" وبين "الكاتب الكبير"، وفق ما تقول أمى.

كان ذلك فى منتصف السبعينيات من القرن الماضى. بعد ذلك بعقد ونيف سوف يحصد جائزة نوبل فى الآداب. لكنه كاتبٌ كبيرٌ قبل نوبل بدليل أن أمى قالت ذلك. أدفسُ وجهي فى كأس الكاساتا بالفراولة والڤانيليا، وأشبُّ بين الحين والآخر على قدمى كى أحدّق فى الكاتب الكبير. هل يختبئ الإبداعُ الكبيرُ داخل هذه الزبيبة الكبيرة؟ حين أعود إلى البيت، أركض إلى غرفتى وأواجه المرآة فى تسريحتى، وأبحث فى وجهى عن علامة الإبداع، فلا أجد زبيبة. كبيرة كانت أم صغيرة. يعنى لن أكون كاتبة كبيرة أبدًا!

لم أكن قد قرأت له حرفًا. وحين أكبر قليلا سأبدأ بقراءته "الثلاثية" وأحبها، رغم أن شيئًا ما يؤرقنى بها، لن أستطيع تحديده إلا بعد نضوجى. وبعد عدة سنوات أخرى سأكون قد قرأت معظم ما كتب وأصبحت جاهزة لتكوين ملاحظاتى على رواياته بشكل عام. سأبنى وجهة نظر تجعلنى أحمل بعض "النقمة" على الكاتب الكبير. سأتحفّظ مثلا على طريقته فى رسم شخصية المرأة المصرية فى أوائل القرن الماضى.

المرأة لدى روايات محفوظ إما "ساقطة" بإرادتها: "زبيدة"، أو "فاضلة" رغم أنفها: "أمينة"! يعنى هى فاضلة حين لا تستطيع أن تسقط! ولماذا لا تستطيع؟ لأن رجلا ما قد حبسها وقيّد حريتها فصارت فاضلة! تسييرًا لا اختيارًا. فاضلة بسبب قبضة الرجل المسيطر على معصمها. أين إذن جداتنا وأمهاتنا اللواتى اخترن الفضيلة اختيار لا قسرًا؟ ومحفوظ نفسه يحكى عن أمه أنها كانت مثقفة دون كتاب ولا معلّم، ترتاد المتاحف وتستمع إلى الطرب الرفيع!

سطّر نجيب محفوظ تاريخَ مصر كما لم تكتبه كتبُ التاريخ الزائفة والمؤرخون المرتزقة. لم أعرف العصر الذى عاشته مصر بعد ثورة 19 وقبل ثورة يوليو 52، إلا من روايات العم نجيب.

لذلك كان حزنى شديدًا لأننى لم أر نموذج المرأة الذى كنت أحلم أن أراه. المرأة المثقفة بفطرتها، الفاضلة باختيارها، الواعية بحقها الخاص بعيدًا عن عباءة الرجل وقبضة يده الغاشمة. المرأة المصرية العظيمة لكونها مصرية. هل حرية المرأة دون قبضة رجل بالضرورة تعنى سقوطها؟ هن نساء عشرينيات وثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضى؟ يعني مجايلات لجدتى مثلا؟ أكلهنّ كنَّ إما زبيدة أو أمينة؟ طيب أين جدتى يا ترى؟ جدتي "فاطمة هانم إبراهيم سليمان" لم تكن زبيدة الساقطة، ولا أمينة الفاضلة رغم أنفها.

جدتي كانت تقرأ الأدب والشعر والفلسفة، وتعزف البيانو وتحفظ الشعر وتتكلم الفرنسية، وتحفظ القرآن وتقيم الصلوات في مواعيدها، وكانت صاحبة عصمة ولها زوج يحبها لا يقمعها. كانت تلبس الفساتين الأوروبية وتخرج وترى الحياة، لكنها لم تسقط، لأنها اختارت أن تكون فاضلة. فلماذا لم أر جدتى فى رواياته؟ أعلم أنه اختارَ أن يفضح سلبيات المجتمع، وأنه كان داعيةً لحرية المرأة رغم نماذج بطلات رواياته، لكننى رغم ذلك كنت أبحث عن نموذج جدتى بين سطوره، ولم أجده!

لكننى أحببته، وسوف أضع كل حبى له فى آخر قبلة قبّلتها لرأسه فى آخر لقاء جمعنى به فى أبريل 2006 قبل طيرانه للسماء بأربعة أشهر فقط. قبّلته كأنما أعتذر له عن موقفى من موقفه من المرأة. موقفى الذى لم يتغير إلى الآن وحتى إشعار آخر.

أحببتُ عمّ نجيب لأنه يضعنى رأسًا أمام المثال الذى أحبُّ أن أعود إليه كلما آلمنى حالُ مصرَ والمصريين. فهو النموذج الأجلى لفراعين مصر. حيث دقّة العمل واحترام الوقت وتنظيم الحياة إضافة إلى الإبداع الملهم. مصر بتركيبتها الحضارية والثقافية الثرية. أين هي الآن وما هذا الذي آلت إليه؟! كلما أخذنى القنوط تأملتُ نماذجَ على شاكلة محفوظ ومجدي يعقوب وأحمد زويل وطه حسين وزكي نجيب محمود وحسن فتحى وغيرهم الكثير. أتأملهم فيعود إلىّ اتزانى وثقتى بالحياة.

ما معنى أن يقضى رجلٌ ما يزيد على ثمانين عامًا من عمره يعمل دون توقف؟ لا سيما إذا كان عمله هو "الإبداع"، الذى اشتهر أن أصحابه لابد وأن يكونوا بوهيميين فوضويين يحيون خارج الزمن، دون نظام أو ترتيب. ينتظرون الإلهام و"يفوضوون" حياتهم بحجة الفن والانطلاق من الأرض والثوابت.

كان العم نجيب يجلس إلى مكتبه كل يوم من السادسة حتى التاسعة صباحا، حتى يبرمج عقله على استجلاب المادة الكتابية فى هذه الساعات تحديدا. حيلة تعلمها من نظرية الارتباط الشَّرطى لدى الروسى إيڤان بافلوف، ونجح بالفعل فى أن "ينظّم" ما لا انتظام فيه، وأن يبرمجَ مَلَكةً هى فى الأساس عصيةٌ على البرمجة ونقيضٌ للتنظيم. حتى بعدما يدٌ جاهلةٌ طعنته فى عنقه من دون أن تقرأ له حرفًا في أوائل التسعينيات، ظلَّ يحلم ويكتب ولم تقعده العاهةُ عن الإبداع، إذ أى عاهةٍ تعيق الحلُم؟! طعنه شاب جاهل مُسطّح لأنهم "قالوا له" إن رجلَ "أولاد حارتنا" كافرٌ ملحد! لكنه ظلَّ يكتب والخنجر مغروس فى عنقه دليلا دامغًا على تسطحّ الوعى لدى كتلة راهنة من المصريين، وعلى انهيار منظومة التعليم فى مصر. عاش محفوظ زمن ازدهار مصر الذى لم أره وليس من شاهد لى عليه إلا حكايات الجدة والأفلام الأبيض والأسود.

أمس 11 ديسمبر، كان عيد ميلاد الرجل الذى وضع نوبل للآداب فى كأس مصر والعرب لأول مرة فى التاريخ. عظيمة هى مصر، عظيمة بحضارتها وبحداثتها رغم كل الانهيارات الطارئة الراهنة. أتمنى على الله أن تكون طارئة، وكل عام وأنت طيب حيث تكون يا عم نجيب.
نقلا عن مبتدا


More Delicious Digg Email This
Facebook Google My Space Twitter
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع