بقلم : د. إيمان رفعت المحجوب | الأحد ١٣ ديسمبر ٢٠١٥ -
٢٧:
٠٢ م +02:00 EET
د. إيمان رفعت المحجوب
لقد مللت سماع الأسطوانة المشروخة بأن الثورة قادمة لا ريب فى الخامس والعشرين من يناير، ولهؤلاء الواثقين أقول إن تعاطف الشعب مع ما حدث فى يناير ٢٠١١ وانحيازه له، ثم بعد ذلك لجوئه إلى الشارع مناديًا مستجيرًا فى الثلاثين من يونيو ٢٠١٣ كان لظروف معينة أظن وأتمنى وآمل ألا يجود بمثلها الزمان، ففى المرة الأولى نزل من نزل مع من دعوا للنزول تعاطفًا مع مطالب مشروعة ولم ولن تتحقق بالثورة؛ ولا أظنها تحققها من فورها الثورات فكما أخبرنا التاريخ؛ ولا ينبئنا مثل خبير؛ أن تاريخ الثورات ليس ناصع البياض، وأن الثورات لا تؤتى ثمارها إلا بعد عقود، عقود من الفوضى والتخبط والخيانة تارة والإتهام بالخيانة ومعاداة الثورات والثورات المضادة تارة أخرى وتصفية الحسابات وسلاسل الإعدامات بدون محاكمات والمبالغة فى فرض النقيض من السياسات واللا موضوعية من الرفض والقبول حتى تدخل الدول مراحل الاستقرار وتحقيق المطالب العادلة للثورات على أرض الواقع.
فسنجد الثورة الفرنسية التى اعتبرت أم الثورات وروحها مرت بمراحل عدة وسيق فيها الآلاف إلى المقصلة فقط لآرائهم السياسية وقد حار التاريخ فى تفسير أسباب الإرهاب الذى مارسته حكومة الثورة، بدأت الثورة فى أولى مراحلها بدستور جديد حد من سلطات الملك والكنيسة وأقر حقوق الإنسان، ثم فى المرحلة التى تلت تم خلع الملك لويس السادس عشر واتهامه بالخيانة وإعدامه وزوجه مارى أنتوانيت واستبدال الجمهورية بالملكية، وكان هذا العصر؛ عصر الجمهورية الأولى أو عصر اليعاقبة؛ فى نظرى الاسوأ وأسوأ من عصر الملكية نفسها واعتبروه "عصر الإرهاب" لتقييد حرية الرأى وإحكام الإعدام التى وصلت فى تقدير البعض إلى ٤٠ ألف قتيل وانتهت الثورة التى دامت عقدًا من الزمان بالتراجع وتحالف البورجوازيين والجيش وفرضوا دستورًا جديدًا وتمكن نابليون؛ أشهر قادة التاريخ الحربيين والذى أصبح بطل الثورة بسبب انتصاراته فى حملاته الخارجية؛ من القيام بانقلاب عسكرى على الجمهورية وأسس نظامًا إمبراطوريًا ديكتاتوريًا توسعيًا ورغم فشل الثورة من تحقيق ديمقراطية فى حينها وانتهائها بديكتاتورية نابليون إلا أنه بكونه رجل دولة أسس لدولة مدنية حديثة بقانون مدنى عصرى عرف بقانون نابليون. أو ما حدث من الثورة البلشفية فى روسيا حيث قام مجلس مفوضى الشعب بإقرار سلسلة من الاعتقالات لكل من زعماء المعارضة وقادة المناشفة والحزب الاشتراكى الثورى، ثم دخلت روسيا فى حرب أهلية ما أدى إلى التدخل الأجنبى الرباعى وتبع ذلك مرحلة الحرب بين الجيش الأبيض والأحمر والصراع المسلح بين الفريقين حرب خلفت ثلاثة ملايين قتيل ونفذت قوات الشيكا حكم الإعدام فى ربع مليون مواطن بلا محاكمة على اعتبار أنهم أعداء للشعب! هذا غير ما قتل من القوقازيين واليهود! فضلاً على ما خلفت من خراب ومجاعات لو أن البلاشفة نزلوا على رأى المناشفة الذين كانوا يرون أن الديمقراطية والعدالة ستتحق تلقائيًا بطريق تدريجى لربما أنقذ الاتحاد السوفيتى من كل ما مر به من كوارث، وثورة شنخاى فى الصين قبل الحرب العالمية الأولى وما بعدها وبحور الدماء التى سببها الصراع بين الكومنتانج والنقابات العمالية والحزب الشيوعى ونشوب الحرب الأهلية التى تسببت فى سقوط آلاف القتلى وإحراق الفلاحين إحياءً ما اضطر الجيش للتدخل وكان نتيجة هذا الضعف والانقسام الداخلى إن طمعت فيها دول الجوار وتوغلت اليابان فى إقليم منشوريا المتنازع عليه مع بدايات الحرب العالمية الثانية والتى ما أن لاحت بصروفها حتى نبذ الحزب الشيوعى والكومنتانج ما بينهما من صراعات وتوحدا تحت رئاسة تشيانج كاى تشك ضد الخطر الخارجى متخليًا بذلك الحزب الشيوعى عن الثورة والثوار ثم يعاود الكرة مرة أخرى بعد انتهاء الحرب ويستولى ماو على السلطة ويستمر الحزب الواحد وتنقسم الصين ويستقل تشيك بحكم تايوان. أو كمثل ما خلفت الثورات المانية فثورة مارس ١٨٤٨ فى النهاية استولت عليها الطبقة الأرستقراطية المحافظة وثورة نوڤمبر التى نتجت كرد فعل لهزيمة الأسطول الحربى فى الحرب العالمية الأولى فقامت بإزاحة الإمبراطورية واجتمع ممثلو الشعب فى مدينة فايمار ووضعوا دستورًا اعتبر وقتها واحدًا من أرقى الدساتير فى العالم قامت على أساسه جمهورية فايمار وبالرغم من الإصلاح الاقتصادى والتطور الحضارى الذى قامت به إلا أن المؤرخين اعتبروها مثالاً كلاسيكيًا لديمقراطية فاشلة حيث إنها كانت سببًا لظهور النازية؛ فحين فشل الانقلاب الذى قام به هتلر وانتهى الأمر بسجنه، خرج من سجنه لينتهج نهجًا جديدًا وينجح فى التحايل هذه المرة ويصل بالديمقراطية للسيطرة المطلقة على الحكم فى ألمانيا وأصبح "هتلر الشرعى" أو الديكتاتور الشرعى! هذا ما عرف التاريخ الحديث من ثورات على سبيل المثال لا الحصر كلها خلفت الدمار والديكتاتوريات ثم جاء الإصلاح على مهل بعد عقود عن طريق الدساتير والقوانين الحديثة.
ما دعانا للثورة فى يناير هو إحساسنا بالظلم الاجتماعي وقلة الحريات مع يأسنا من التغيير فى وجود احتمال فكرة التوريث ولما فشلت الثورة وأتت بالإخوان ولم تُحدِث أى تحسن على أرض الواقع وحدث العكس، ازداد الوضع سوءًا منذ اليوم الأول للثورة من جراء الفوضى التى عمت بعد الاعتداء على ضباط الشرطة وفتح أبواب السجون وما ترتب من انفلات أمنى والذى انعكس سلبًا بأسرع ما تصور أحد على السياحة والاستثمار والحياة الاقتصادية بوجه عام فخربت بيوتًا وأغلقت أبواب الرزق، غير الفساد الذى ظهر فى صورة أخونة مؤسسات الدولة وتمكين هذه الجماعة فى كثير من مفاصلها مما أطلق أيديهم فعبثوا بمقدراتها بالدستور والمجالس النيابية والوزارات وامتد العبث إلى حدود الوطن وأمنه ومنحت الجنسية المصرية لإرهابيى حماس وأطلق سراح القتلة والخونة ورفعوا على العرش، وأصبح الوطن مهددًا من الداخل بالحرب الأهلية ومارس المتطرفين العنف فى الشوارع أحرقوا الكنائس وهجروا المسيحيين من ديارهم ومثلوا بالقيادات الشيعية وأصبحوا يمشون فى الأسواق يحلون الدماء حسب شريعتهم أثروا على رجل الشارع البسيط فسلبوا إرادته بزعمهم أن معهم الجنة! وأصبح أمن الوطن واستقلاله الخارجى مهددًا وظهرت مخططات الإخوان العالمية على الساحة والتى ما زلنا لا نأمن خطرها حتى الآن!
ما كان بعد يناير تجربة فاشلة اكتوى منها الشعب كله ولا يمكن بحال أن تعود كل هذا ترتب عليه خروجنا فى الثلاثين من يونيو إنقاذًا للوطن، أى أن يناير أتت بيونيو ولما كان من المستحيل نفسيًا إعادة صياغة يناير لانتفاء كثير من أسبابها وبسبب ما خلفت على الأرض، أرى الشعب غير مضطر لإعادة صياغة يونيو، ثم ما الحاجة لكليهما والتغيير آت بإذن الله لا محالة فالثورة مراحل تبدأ بالجنون وتنتهى بالتعقل والعودة إلى ما قبل يناير ضرب من ضروب الجنون المستحيل وكذا ما قبل يونيو فبعد الصحوة المجتمعية وفى ظل حكومة وطنية تعمل على تحقيق أهدافهما وتحارب أعداء مصر المتربصين بها فى الداخل والخارج نكون وصلنا إلى آخر وأعقل مراحل الثورة مرحلة "لم ما ترتب من جراح" وهى الأهم الآن، وبدء التطبيق العملى لنظريات الإصلاح التى طالبت بها الجماهير، ومن لا يرى هذا الواقع قطعا هو فى حاجة لإعادة النظر من منظور مختلف .
* أستاذ بطب قصر العينى
نقلا عن اليوم السابع
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع