(1)
هذه الأيام.. كل الفنون تعاني الفقر الشديد بما فيها فن النفاق السياسي وتملق الحاكم أو كما يحب العامة تسميته بالتطبيل أو التعريض واسم فاعله (معرض) (تحايلاً بالنقطة على المفردة الأصلية). حتى وصلنا اليوم لطبالين فقراء الموهبة لا يتمتعون بأقل كفاءة لازمة مما يعرضهم للنقد، ويعرض الحاكم ( الرئيس ) لاستهجان مستحق.
أما في الماضي وقبل التأميم المقيت فقد كان (التعريض) فنًا حقيقيًا مما رفعه لأن يسمى فن المدح والثناء. تأدبًا معه واحترامًا لنبوغه، ولكنّه يبقى في حقيقته تطبيلاً أو تعريضًا أو نفاقًا لا أكثر.
(2)
نبدأ فورًا ببعض المحاولات المهمة قبل يوليو 1952 لنرى كيف ارتفع هذا الفن جدًا:
- فمثلاً عام 1932غنت أم كلثوم للملك فؤاد:
ملك الفؤاد فما عسى أن أصنع ** أفديه ان حفظ الهوى أو ضيع
ورحل فؤاد فغنت لفاروق عام 1937 في عيد ميلاده
( طلع السعد عليها يوم ناداها البشير قائلا فاروق هلا * ونما البشر إليها حين وافاها السرور بهلال قد تجلى )، قبل أن تلاحقه في 1938 بأغنية ( أشرقت شمس التهاني ) وذلك بمناسبة زواجه من الملكة فريدة. ثم داعبته في ليلة العيد عام 1944 وسط أغنيتها الشهيرة ليلة العيد ..(يعيش فاروق ويتهنا ** ونحييله ليالي العيد)، لينعم عليها بوسام الكمال لتصبح صاحبة العصمة!!
في ذات الفترة لم يتكاسل عبد الوهاب عن المنافسة فغنى لفاروق 1945
**والفن مين انصفه غير كلمة من مولاه
** والفن مين شرفه غير الفاروق ورعاه
**أنت اللي أكرمت الفنان ورعيت فنه
** رديت له عزه بعد ما كان محروم منه
** ورويت فؤاده بالألحان برضاك عنه
فلم ينعم عليه الملك بشيء .. فعاجله في عيد جلوسه بأغنية من أشعار صالح جودت قال فيها
(ياللي آمال الشباب ترويها إيدك **الليله عيد الشباب، الليله عيدك)، وخرج عبد الوهاب أيضا خالي الوفاض من لقب أو نيشان !! لكنّه صار فيما بعد (اللواء محمد عبد الوهاب)، نعم والله هذا حدث فقد أخذ رتبة لواء شرفية.
(3)
نقفز بعض القرون للوراء فنرى ابن هانئ الأندلسي وقد جاهر بالتطبيل حتى وصل به آفاقًا لن يستطيع عاقل تخيلها فشبه خليفته بالنبي وسبغ عليه صفات الآلهة:
ما شئت إلا ما شاءت الأقدار *** فاحكم فأنت الواحد القهار
فكأنما أنت النبي محمد ** وكأنما أنصارك الأنصار
وما أتصوره أنه لم يكن ليجرؤ على هذا إلا إذا كان قد سبقه من اقترب من ذلك .. كما أتصور أن ( خليفة خليفة رسول الله ) المعز لدين الله الفاطمي لم يرمش له جفن ولم يهتز له فؤاد بل وابتسم على الأرجح.. فتمادي الشاعر بعدها ليمنح الحاكم صفه الإله الذي يقسم الارزاق ويتحكم في الأعمار
( شرُفت بك الآفاقُ وانقسمت *** بك الأرزاقُ والآجالُ والأعمار ).
(4)
نميل سريعًا لمليكنا المعظم فؤاد الأول ونجله الوسيم فاروق الأخير .. صادفتني رسالة بليغة كتبها أمير الشعراء للأمير فاروق راق لي فيها الوصف القادم ( فاروق يا أذكى نبات الوادي ** و لمحة الآباء والأجداد)، كما اصطدمت أثناء التجوال بعلَم أزهري نابه فاقت شهرته الآفاق فيما بعد في غير مجال الشعر كتب مرة في الملك فؤاد:
الأزهر المعمور روض أنت فيه الكوثر
ولا أعرف بدقة هل هي ذات القصيدة التي داعب فيها الأمير فاروق أم لا . وقال فيها للملك فؤاد أو رشيد العصر..
(دم يا رشيد العصر للنيل حامياً ** ودام لنا المأمون فاروقك البر
فيمناه يمن للبلاد وأهلها ** ويسراه يطفو من أناملها اليسر )
آه نسيت ..... ما سبق لم أره أبدا منسوبًا لغير الشيخ محمد متولي الشعراوي
(5)
لكن لا يعني هذا أنه لم يكن هناك (طبالون) متواضعون فمثلاً ونقلاً عن مجلة المصور. كتب محررها أن الملك فاروق في إحدى رحلاته للفيوم كان ( يلاطف ضيوفه ويسبغ عليهم عطفه وكرمه ويتجلى لهم بالديمقراطية المحببة التي تسري في دمه:
( لقد اصطاد جلالته 344 بطة في أربع ساعات، بينما اصطاد سفير الهند بطة واحدة.. إن جلالة الملك هو أمهر صياد في مصر وفي غير مصر.....)
بالله عليكم هل حدث يومًا ما أن تخيلتم أن يقال نصف هذا على مبارك أو السيسي أو غيرهما.. لا أظن.
(6)
طال هذا المقال أكثر مما أريد.. ولو أن المادة عندي تحتاج فصلاً في كتاب لكن.. ألا تلاحظون شيئًا!! في هذه الفترة كان الإخوان المسلمون في عنفوان قوتهم وأعلى منحنى صعودهم وبين أظهرهم مؤسسهم الملهم وامامهم الأكبر (حسن البنا) فلابد أن يلمع السؤال.. ماذا كان رأيهم في كل هذا التطبيل؟ وكيف واجهوه وإلى أي حد انتقدوه؟
الإجابة القاطعة.. لم ينتقدوه أبدا. بل زايدوا عليه بطريقتهم.. وصنعوا نفاقهم الخاص ربما قبل أن يصنعوا تنظيمهم الخاص.. (على أساس أن حاجتهم كلها لازم تكون خاصة ومميزة)، ولأنهم بالفعل غير موهوبين فقد كان نفاقهم مثلهم ساذجًا وإليكم منه أمثلة:
29 أغسطس 1942 تعود مجلة "الإخوان المسلمون" للصدور وعلى غلافها صورة الملك فاروق.. لكن بمسبحة تتدلى من يده.. وفي عيد الجلوس الملكي تأتي صورة فاروق للغلاف وتقول المجله في افتتاحيتها ( أن عيد الملك هو عيد الشعب.. وأن هذا الشعب قد أحب مليكه كما لم يحب أحداً من قبل).
وتتوالى صور فاروق كنجوم السينما على غلاف مجلات الإخوان مرة بمسبحة ومرة بلحية وتحتها عبارة القدوة الصالحة ومرة بالزي العسكري وهكذا.
وكتب حسن البنا بنفسه وبمجلته مقالا عن الملك فاروق جَرُؤ أن يقول فيه إن فاروق (ضم القرآن إلى قلبه ومزج به روحه) و( أن صلاح المسلمين في كل الأرض سيكون على يديه) و(أكبر الظن أن الأمنية الفاضلة ستصير حقيقة ماثلة، وأن الله قد اختار الفاروق لهذه الهداية العامة، فعلى بركة الله يا جلالة الملك ومن ورائك أخلص جنودك).
وللبنا كذلك مقال نكتفي بعنوانه (الفاروق يحيي سنة الخلفاء الراشدين) لاحظ الفاروق .. تشبيها بعمر بن الخطاب (نفسه )
وفي صناعة الطواغيت ولمواجهة هتاف الوفد (الشعب مع النحاس)، للإخوان هتاف شهير ( الله مع الملك )... لاحظوا.. مادام الله مع الملك فيكون من مع الملك هو مع الله.. ومن ضد الملك هو ضد من!! ضد الله ذاته.
(7)
إذًا لابد أن نتواضع مع طبالي اليوم ولا نقسو عليهم.. فمشلكتهم لا (تعريضهم)، بل عدم إيمانهم بفنهم وقلة تميزهم، وضعف كفاءتهم، وعدم قدرتهم أن يصلوا بفنهم إلى مستوى المدح والثناء مثلما استطاع الرواد الكبار.
نقلا عن دوت مصر