بمجرد انتهائي من قراءة كتاب (ثورة جسد) للكاتبة الصحفية، الفة السلامي، وجدتني مدفوعًا لإجراء هذه المقابلة الصحفية معها، ليس عن الكتاب، ولكن عن معركتها مع السرطان، التي دفعت جسدها للثورة ورفض الاستسلام، ربما في تفاصيل الحوار، ما يكون نقاطا دفاعية لأخريات، يخضن المعركة الآن، ويغلف إحساسهن اليأس بالانتصار. كيف اكتشفتِ المرض؟ ومتى؟ اكتشفته بالمصادفة، عندما كنت بصدد تغطية الثورة الليبية أواخر شهر مارس 2011، أتذكر أنني تحسّست تحت إبطي في ليل حالك الظلمة، حيث كان النور مقطوعا بفعل القصف، وقررت عرض نفسي على طبيب، بمجرد عودتي إلى القاهرة.
ماذا كان رد فعلك عندما علمتِ بنبأ مرضك؟ كأني كنت في انتظار الخبر.. لم أندفع في البكاء، أو أنهار، وكل خوفي كان منصبا على محاولة تجنيب القريبين مني هول المفاجأة والتأثر بتداعياتها. حاولت أن أخفف عني وعنهم بعدم الخوض في الأمر والتفاصيل المزعجة. وأحاطني الجميع بالكثير من العناية، فنجحنا جميعا في تجاوز ما أصابنا من غم وقلق. هل كان مرضك وراثيا؟ نعم.. لديّ أخت أصيبت بالمرض وهي في السابعة والعشرين، ولم تنقذ.. لأن الاكتشاف كان في أثناء حملها، فتوفيت بعد ولادتها ابنتها بنحو شهرين. وقد بحثت في تاريخ العائلة النسائي، فوجدت أن لي جدة لأمي أصيبت بسرطان الثدي وهي في الأربعين من عمرها، واستأصلت ثدييها، حيث كان ذلك هو المتاح، ولم تأخذ أي علاجات أخرى، ونجت، وعاشت حتى التسعين بصحة جيدة.
لكن من عاشوا بالقرب منها أكدوا أنها غيّرت نمط حياتها، بحث أصبحت تميل للترويح عن نفسها، والخروج من البيت لزيارة أفراد أسرتها، بعد اكتشافها المرض. ما الصعوبات التي واجهتك خلال مرضك؟ صعوبات عادية في غالبيتها، مثل عدم تحمل الكيمائي وتداعياته، وعدم ملاءمة الجزء الأخير من البروتوكول المتمثل في العلاج الهرموني، حيث تسبب في تضخم جدار الرحم، ما استلزم تدخلا جراحيا، وبعدها غيّرت الدواء الهرموني مرتين، مع أخذ حقنة كل ثلاثة أشهر من علاج مساعد، والتأثير الجانبي الثاني تمثل في هشاشة العظام، بسبب العلاج الكيمائي.
واستلزم ذلك أخذ جرعات كل ثلاثة أشهر من علاج «زوميتا». كيف واجهت المرض؟ كيف قاومتِ نوبات الألم التي كنتِ تتعرضين لها؟ بكل شيء ممكن ومتاح، وأستطيع أن أستخدمه لصالحي، طالما أحبًه.. الكتابة مثلا.. وقد كتبت «ثورة جسد»، ضمّنته أفكاري عن تجربة المرض، متداخلة ومتشابكة مع تغطيتي في تلك الفترة لثورات تونس ومصر وليبيا.. أيضا بالتعلّم «لأني أعشق الدراسة» فقبلت منحة من الجامعة الأميركية بالقاهرة، قسم السياسات العامة، وأنجزت على امتداد سنتين ماجستير في السياسات الإعلامية، واخترت موضوعا يهمني بشكل مهني وفكري، وهو السياسات الإعلامية بعد ثورات الربيع العربي، وقدمت رسالتي بنجاح كبير في فبراير 2014. أيضا واجهت قلقي بالمشاركة في فعاليات متعددة لها علاقة بالمرض، مثل المؤسسة المصرية لمكافحة سرطان الثدي، مع الطبيب الرائع دكتور محمد شعلان، رئيس المؤسسة.
أيضا لا أنسى أهمية الرياضة لمرضى السرطان، فهي تعطيهم طاقة إيجابية لا حدود لها، وتطرد الطاقات السلبية. ولا يمكن أن أنسب لنفسي الفضل في أني كنت طبيبة نفسي وروحي الجريحة في أحيان كثيرة.. لكن بالتأكيد ساعدتني أسرتي الجميلة، بالالتفاف حولي، وأصدقائي الرائعون.. لا بدّ أن أتذكر من بينهم أسرة الأستاذ عصام الإسلامبولي، وزوجته الصديقة وفاء البدري، وابنيهما خالد وإنجي. وقد أقاموا لي احتفالا بمناسبة صدور كتابي الجديد.. وكانت حفلة محفورة بالذاكرة لا تمحى. وأعتقد أنه من المهم في هذه الحياة التي تحمل لنا في طياتها، في ظاهرها وفي باطنها، عالما متماوجا متشابكا بأحداث مفاجئة لنا، وأكبر من قدرتنا على استيعابها اللحظي، أن يكون لنا الوعي العميق بتلك العلاقات الإنسانية المعقدة، مع ضرورة النظر إليها من زوايا متعددة ومختلفة، واستدعاء نوافذها المضيئة &ndashلا المغلقة- حتى نطلّ بها على كل مساراتها ومجرياتها.
هل كان لديكِ أمل في الشفاء؟ أن يكون للمريض أمل في الشفاء فهذا لا يساوم.. إن المريض، أي مريض، يحتاج إلى قلب خصب بالإيمان، يقول الله تعالى: «وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)»سورة البقرة«. ويقول عليه الصلاة والسلام:»ما يصيب المسلم من نصب ولا وصبٍ ولا هم ولا حزن ولا أذىً ولا غم، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفّر الله بها خطاياه«. كيف تم علاجكِ؟ بعملية جراحية لاستئصال الورم، كذلك استؤصل الثدي لانتشار الورم، وبعد الجراحة انتقلت لطبيب علاج الأورام، حيث يوجد بروتوكول خاص بكل مريض يعتمد فيه على تحليل الخلية السرطانية من الورم الذي يُستأصل في أثناء الجراحة، ثم يذهب إلى المعمل المختص. والبروتوكول الخاص بي يتضمن العلاج بالجرعات الكيمائية، لمدة ستة أشهر، يليها العلاج الإشعاعي، ثم المرحلة الثالثة، العلاج الهرموني، مع المتابعة الدائمة كل ثلاثة أشهر خلال السنتين الأولى والثانية.
ومن حسن حظي أنه تم استثنائي من العلاج الإشعاعي، بعد إجراء تحاليل جينية إضافية، أثبتت سلامتي وعدم حاجتي له. ما فترة المرض لديك؟ اكتشفت الورم الخبيث خلال السنة الأولى من عمره، وكان عبارة عن ورمين، 3 سنتيمترات وسنتيميترا ونصف السنتيمتر. أما بروتوكول العلاج فيمتد لخمس سنوات في المعتاد. شفيتِ بعد كام سنة؟ في مرض السرطان، الحديث عادة عن ناجيات وليس عن الشفاء، نظرا لاستمرار المتابعة مدى الحياة، دون غفلة أو نسيان. ماذا كان رد فعل عائلتك وأصدقائك عندما علموا بإصابتك؟ الصدمة هي رد الفعل الطبيعي على المرض في البداية. وبالتأكيد كانوا يبكون، وانهاروا في أوقات كثيرة، لكن ليس أمامي. هل كان لدعم عائلتك وأصدقائك دور في علاجك؟ لا يمكن أن أغفل دور عائلتي وأصدقائي، كلٌ بطريقته وأسلوبه. من أكثر الأشخاص الذين وقفوا بجانبك وساندوك، وكانوا أكثر دعما لك. أغلب أصدقائي، وهم ليسوا كثيرين، لم من يساندني واختفى وتوارى في تلك الظروف، التمست له الأعذار، حيث إن الضعف سمة البشر، وليس كل الناس لديهم القدرة على المواجهة بنفس القوة والصلابة.
المهم أن أشير إلى أني حجبت الخبر عن بعض المقربين لي، مثل والدتي وصديقتي، وهي مثل أختي الكبرى، خوفا عليهما. كما أني حذفت من ذاكرة تليفوناتي عددا ممن كانوا أصدقائي، والسبب نزعتهم التشاؤمية البائسة واتصالاتهم التي لا تحمل سوى الأخبار السلبية، التي لم يعد لها متسع بداخلي. المريض يحتاج طاقة إيجابية على الدوام، إذا كان لا ينتجها فسوف يسعى لاستيرادها أو استدعائها بكل الطرق، بممارسة أي شيء يحبه مثلا، كالكتابة والمطالعة والزخرفة وتربية الحيوانات والاعتناء بالنباتات والورود والشجر.. وغيرها من الوسائل التي تجلب البهجة والترويح عن النفس. أما»النكد" فممنوع ممنوع يا ولدي.