بقلم : مي عزام | الأحد ٢٧ ديسمبر ٢٠١٥ -
٠٥:
١١ ص +02:00 EET
مي عزام
الأديب الحقيقى، في داخله فيلسوف، يفعل مثلما فعل الفيلسوف اليونانى «ديوجين» قديما، يسير في ضوء النهار حاملا فانوسا مضيئا ،وحين كانوا يسألوه: عن أي شيء تبحث؟كان جوابه المشهور الذي لا يزال حكيما: أبحث عن الحقيقة .
فيضان الأخبار اليومية يغمرنا على مدار الساعة، ويجعلنا نبتعد عن التدبر فيما يخصنا، عن أزمة إنسان القرن الواحد والعشرين، التي نشترك فيها جميعا، ولوتدبرنا الأمر قليلا بعيدا عن إرهاب داعش والحروب المفتعلة والمشتعلة حولنا وفى نحاء العالم ،وأزمات الإعلام الفاسد والأخبار المحلية المتداولة، سنجد أزمة مستترة تطل برأسها ،لم يتحدث عنها أحد بوضوح أو جرأة، فهى ضد القيم الإنسانية المتعارف عليها، والخاصة بتقديركبار السن ،هؤلاء أصبحوا يمثلون عبئا على الدول المتقدمة، التي تجاوز فيها متوسط الأعمار الثمانين كماهو الحال في اليابان ، حياة المسنين وسلوكهم لم تعد تشبه حياة اسلافهم، الذين كانوا ينتظرون الموت في رضا، ويشعرون أن دورهم في الحياة أنتهى وان ماتبقى لهم من أيام وسنوات عليهم أن يقضوها قانعين بما لديهم، ليس لهم أي تطلعات أوطموحات، عكس ما يحدث الآن على سبيل المثال فسياحة مابعد المعاش رائجة جدا وخاصة بين اليابانيين، التطور العلمى واهتمام المسنين بصحتهم وغذائهم جعلهم قادرين على ان يقوموا بكل الانشطة الحيوية ومنها النشاط الجنسى وهو مايستهجنه المجتمع ويخجل من الحديث عنه، ولعل فيلم «45 سنة»الحائز على جائزة الدب الفضى في مهرجان برلين الأخير يتعرض لهذا التابو المقدس .
اليابان التي بها أعلى متوسط أعمار في العالم الآن ويصل إلى أكثر من 82 سنة ،تبدو بعيدة تماما عن يابان القرن التاسع عشر، الذي قدم المخرج اليابانى اللامع شوهي إيمامورا لمحة عن تاريخها في فيلم «رحلة ناراياما »، الذي انتجه عام 1983، وحصل به على السعفة الذهبية في مهرجان كان، والذى اعتبره شخصيا من روائع السينما اليابانية بصفة والعالمية .
الفيلم يحكي قصة إمرأة يابانية تدعى «أورن»مسنة يفترض أن تكون قد ماتت طبقا لطقوس القرية التي تعيش فيها لكنها في صحة جيدة. التقاليد القديمة في مطلع القرن التاسع عشر في اليابان كانت تقضي بأن ترحل العجوز، كما كل عجائز بلدتها في اتجاه«الجبل المقدس ناراياما»حيث تنتظر موتها، لتريح عائلتها وتترك الفرصة للشباب والصغار، فرصة الغذاء في ظروف الحياة الاقتصادية الصعبة التي كانت تعيشها القرية البائسة. ابنها الذي تربطها به علاقة قوية تردد في ان يقدم على ما يفعله كل الأبناء في قريته، ولكنها تحثه على ذلك وينتهى الأمر به بأن يحملها على كتفيه ويمضي بها نحو الجبل المقدس ويتركها لقدرها.
الفيلم يرسم لنا شكل الحياة في قرية نائية ومنسية، تعيش على هامش الزمان، ويحيا أفرادها بتقشف شديد وبدائية وسط ظروف حياتية قاسية وسيطرة تامة للجهل والخرافة والأسطورة. الأحداث تنطلق من منزل العجوز أورن ذات التسعة وستين عاماً التي لا تبغي من هذه الدنيا سوى أن تحج إلى جبل ناراياما لتموت هناك بسلام في عيد الموتى بحسب العقيدة البوذية. لكن أورن قلقة على ابنها الكبير تاتسوهي وعلى حياته بعد أن تموت، فهو رجل بلا زوجة، لذلك تشغل نفسها في البحث عن زوجة له، وهي تمني نفسها بتحقيق ذلك قبل أن يحين موعد حجها إلى ناراياما.
والفيلم مأخوذ عن رواية كتبها الروائي الياباني شيتشيرو فوكازاوا عام 1956 بعنوان (دراسة في أغاني ناراياما)، تبدو أحداث القصة والفيلم بعيدة تماما عن روح عصرنا الذي نعيشه، المسنون لم يعدوا يفكرون بطريقة «أورن» العجوز ،بأن عليهم الرحيل مبكرا ليعطوا الفرصة لمن هم أصغر سنا وان دورهم ينحصر في إيجاد حلول لابنائهم قبل الرحيل.
الأمر كان يبدو مؤلما وموجعا في فيلم إيمامورا، ولكن نمط الحياة في العالم الآن تغير كثيرا وخاصة في الدول المتقدمة الثرية ،لكن هناك رواسب في النفس الإنسانية متوارثة عبر الآف السنين، مثل الخوف الفطرى من سم الثعبان أكثر من الخوف من ركوب السيارات، وهذه الرواسب تناقشها الكاتبة التشيلية المعروفة إيزابيلا الليندي في روايتها الأخيرة «العاشق الياباني» التي تتحدث عن قصة حب ممتدة بين عاشقين من المسنين الذين تجاوزوا الثمانين.
الحياة في سأم وملل مسموح بها لكبار السن، ولكن الحياة العاطفية والجنسية فمازالت غير مرحب بها، العلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة مازال مفهومها الرئيسى التوالد وهو الفعل الإنسانى الذي يحمى البشرية من الانقراض، ولعل ذلك هو مصدر النظرة الدونية تجاه المثليين جنسيا، فأنتشار هؤلاء معناه انقراض البشرية وتناقص الذرية.
إيزابيلا الليندى تحاول في روايتها أن تمسك بفانوس ليضىء جزء معتم في النفس الإنسانية، وتقول عن الرواية: مصدر إلهامي جاء من جملة قالتها صديقة لي، عن أمها الثمانينية التي تعيش في مسكن للعجزة وتصادق جنايني ياباني منذ 40 عاماً، حينها قلت لها :ربما يكونان حبيبين ولكن هذه الفكرة رفضتها صديقتى تماماً ونفتها بشدة، لأنه لا يمكن إطلاقاً للمرء أن يفكر بارتباط أحد والديه بعاشق وهو مايظهر التعصب المجتمعي ضد كبار السن«.
المجتمع لايستريح لعلاقات الحب الحميمية بين كبار السن ولايسمح إلا بالود والتعاطف،والليندى ترى إن التقدم في السن، يجعلك دخيل على الثقافة المعاصرة، فأنت لا تشكل جزءاً من هذه الثقافة وهذا أمر صعب لكن لا يمكن تفاديه ولا تجاهله.
إيزابيلا في النهاية تكتب تجربتها وهى تقول: بلغت السبعينيات وأعلم أني لا أزال من الداخل، الشخص الذي كنت عليه، أتحلى بالطاقة وعقلي يعمل جيداً ولم يصبني أي ترهل بعد، أشعر بأني مليئة بالحياة والفضول والحماسة. لا أشعر بأني أنتمي إلى حيث تصنفني الثقافة كامرأة مسنة وحيدة.
ان ما تلفت إيزابيلا الليندى نظرنا إليه يحاول العلم أن يجد له حلا ...وهو موضوع مقال قادم بإذن الله.
نقلا عن المصرى اليوم
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع