قدّم القذافي نفسه في صور متعددة، وهو لم يكتف بزعامة بلاده لنحو 42 عاما، بل خاض غمار التنظير السياسي والديني والاجتماعي والعسكري والكتابة الأدبية.
وعلى الرغم من مقتله منذ أكثر من 4 سنوات إلا أن القذافي يظل شخصية مثيرة للجدل، يبالغ خصومه في ذمه والحط منه، كما يبالغ أنصاره في تبجيله وتنزيهه، ومرد ذلك يعود إلى شخصيته المركبة التي يصعب الحكم عليها من زاوية واحدة، ولهذا تعددت وتباينت المواقف منه.
قال القذافي لمواطنيه: "أنفاسكم تلاحقني كالكلاب المسعورة"، جاء ذلك في سياق قصة بعنوان "الفرار إلى جهنم" نُشرت في عام 1989 ، سرد خلالها أفكاره ومشاعره تجاه المحيطين به، وتحدث فيها مطولا عن نفسه.
حاول الزعيم الليبي الراحل في هذه القصة السردية أن يظهر جانبه الإنساني، وأن يبوح بمشاعره للآخرين وعن الآخرين، وأن يكشف عن ذاته من خلف كواليس السلطة وهيلمانها وجبروتها.
حاول القذافي أن ينزع تاج السلطة في تلك الرحلة القصيرة إلى "جهنم"، وأن يعود إنسانا بسيطا يعبر عن همومه وعواطفه الخاصة بأقصى قدر من التجرد، إلا أنه فشل في ذلك، فما أن يظهر القذافي الإنسان حتى يُطل القذافي "الزعيم" ظلا ثقيلا في السرد، يحجب ما عداه.
خاطب القذافي في قصة الفرار إلى جهنم نفسه واكتفى بوصف الآخرين، قال لهم :"أنفاسكم تلاحقني كالكلاب المسعورة ، ويسيل لعابها في شوارع مدينتكم العصرية المجنونة، وعندما أهرب منها تتعقبني عبر خيوط العنكبوت وورق الحلفا ... لذلك فررت إلى جهنم بنفسي فقط".
ليبيا - 2011
تحدث القذافي في قصته عن الكثير، صال وجال كعادته. جعل من "جهنم" المكان الذي هرب إليه فارا من شعبه، كما يقول وحيدا مرتين، رمزا لمكاشفة حاول فيها أن يعيد رسم شخصيته من جديد، ولذلك بدأها بالحديث عن الطغيان.
استهل العقيد القذافي فراره إلى جهنم بالقول: "ما أقسى البشر عندما يطغون جماعيا!
يا له من سيل عرم لا يرحم من أمامه!
إن طغيان الفرد أهون أنواع الطغيان، فهو فرد في كل حال ... وتزيله الجماعة، ويزيله فرد تافه بوسيلة ما .
أما طغيان الجموع فهو أشد صنوف الطغيان فمن يقف أمام التيار الجارف والقوة الشاملة العمياء ....
كم أحب حرية الجموع، وانطلاقها بلا سيد، وقد كسرت أصفادها وزغردت وغنت بعد التأوه والعناء .ولكني كم أخشاها وأتوجس منها!".
ليبيا - 2011
قال القذافي الكثير عن توجسه من الجموع وخوفه منها، وفي كل مرة عنّ له تقديم نفسه بدويا بسيطا لا يملك أي شيء، لكن شعبه يطالبه بالكثير من دون وجه حق، "هذا ما فعلته وتفعله الجموع بأبطالها العظام ... فبماذا أطمع أنا البدوي الفقير التائه في مدينة عصرية مجنونة ... أهلها ينهشونني كلما وجدوني: ابن لنا بيتاً غير هذا..
أمدد لنا خطا أرفع من ذلك ...
أرصف لنا طريقاً في البحر... ازرع لنا حديقة... اصطد لنا حوتاً !
اكتب لنا تعويذة...اعقد لنا قراناً !!!
أقتل لنا كلباً... اشتر لنا هراً!".
ولم يتمكن الزعيم الليبي الذي وصل إلى السلطة شابا في 27 عاما من عمره، وبقي فيها أكثر من 4 عقود أن يضبط انفعالاته طويلا فخرجت سريعا عن السيطرة لتتحول إلى هجوم عنيف، كما لو أن صاحبه رأى نهايته فقرر أن يترك شهادته وأن ينتقم من خصومه متشفيا وهازئا: "بفراري إلى جهنم انتزعت نفسي منكم أيها العبيد المرتشون.. أيتها النسانيس والحرباوات والخزز... والكلاب المهاجرة الجرباء".