الأقباط متحدون - شحاذ العمّ نجيب
أخر تحديث ١٩:٥٠ | الجمعة ١٥ يناير ٢٠١٦ | ٦طوبة ١٧٣٢ ش | العدد ٣٨٠٨ السنة التاسعة
إغلاق تصغير

شريط الأخبار

شحاذ العمّ نجيب

فاطمة ناعوت
فاطمة ناعوت

فى إحدى مدن اسكتلندا القديمة يقف تمثالٌ من البرونز لفارس مدجّج بالأسلحة والدروع. يضعُ فوق كتفيه شالا طويلا من الرقائق المذهّبة ويعتمر خوذةً فضيّة برّاقة. وجهه برونزى لامعٌ جامدُ الملامح عَبوسُها كما يليق بمحارب من العصور الوسطى. ينتصب الفارس المصقولُ أمام بوابة خشبية عتيقة مغلقة بلوحين متقاطعين من الخشب مثبتتين بمسامير وصواميلَ حديدية ضخمة وسلاسل. وهناك سلّة من الخوص تقبع تحت قدمى الفارس بها بعض العملات المعدنية من فئة الجنيه الإسترلينى ومضاعفاته! لماذا يهبُ الناسُ قروشَهم لتمثال؟! تنظر فى عينى الفارس فلا ترى إلا خواءً يرنُّ صداه فى عمق الأزمنة السحيقة فتتساءل كم قتيلا قتلَ هذا السيفُ وكم طعنةً ردّها درعُه؟ أردد مقولة على بن أبى طالب: «لا تستحِ من إعطاء القليل فإن الحرمانَ أقلُّ منه»، فأقرر أن أجازفَ وأضع جنيها إسترلينيا فى السلة تيمنًّا بعصر الأبطال القدامى الذى ولّى إلى الأبد. فأفاجأ بالفارس يبتسم وتتحرك ذراعُه اليمنى يلتقط كفى الأيمن ويطبع قبلة عليها بعدما ينحنى أمامى كما يليق بچنتل مان من النبلاء الكلاسيكيين! شحاذ!؟ نعم شحّاذ. فالأوروبيون يتفننون فى طرائق الشحاذة فتفوقوا على مخرجى الأفلام. واحدهم يعزف على ڤيولين أو أكورديون، وآخر يطلى جسده بالبرونز وبودرة الذهب ليصير تمثالا لا تدخله الحياةُ إلى حين تدفع. ولنا فى الشرق فنون أخرى. مثل ترويض الثعابين وابتلاع النار والنوم على المسامير كالحواة والسحرة فى الهند والمغرب ومصر وغيرها.

ومفردة شَحَذَ فى اللغة تعنى أحدَّ السكينَ أو صقلَه، أو شحَذَ البصرَ فأحدّه وحدّق جيدًا، وشحذَ الناسَ أى ألحَّ عليهم بالسؤال والتسوّل. وأحد الشعراء الصعاليك قال فى ذلك بيتا شعريًّا موحيًا: «وإنى لأستحى من الله أن أُُرى/ أجرجرُ حبلاً ليس فيه بعيرُ/ وأن أسألَ الخبَّ اللئيمَ بعيرَه/ وبُعران ربّى فى البلاد كثيرُ».

وثمة شحاذةٌ من نوع آخر يعرفها الفلاسفة. كما عرفنا عن الإغريقى ديوچين الذى كان يحمل مصباحًا فى رابعة النهار، وهو الأعمى، ليبحث عن الحقيقة. ثم ينام فى صندوق قذر بملابس رثّة غير عابئ بالدنيا. ولما جاءه الإسكندر الأكبر عارضًا أن يطلب أى شىء يريد فيحققه له فى الحال، أجابه ديوچين بصلف وكبرياء: «فقط اِبعدْ، فإنكَ تحجبُ الشمسَ عنى!»

وأما أشهر الشحاذين فى الأدب العربى المعاصر فهو «عمر الحمزاوى» بطل «الشحّاذ» لنجيب محفوظ. وهى، عندى، أجمل رواياته. محام لامع ثرى متحقق وناجح على صعيد الصحة والعمل والحياة والأسرة. كان شاعرًا فى شبابه وأصدر ديوانًا ثم هجر الشعر بعدما انخرط فى المحاماة والحياة. وفجأة، فى منتصف العمر، يفقد الحماس لكل شىء وتخمل قواه وتخمدُ طاقته دون سبب مفهوم. يضيق بالعمل وبالناس وبالحياة وبنفسه. يبحث عن الرضا دون جدوى. ويظلُّ يطارد السعادةَ فى شتى مكامنها ومظانّها: اللهو، الخمر، النساء، المخدرات، السفر، دون جدوى. يقول لأصدقائه وأهله إذا زاروه فى الحلم: «زولوا لأرى النجوم». ثم راح يبحث عن الله. فيتردد فى عمقه السحيق قولٌ يختم الروايةَ: «إن كنتَ حقًّا تريدُنى فلمَ هجرتنى!؟»

فى عيد ميلاده، أقول لعم نجيب محفوظ: كل عام وأنت مبدع وطيب، حيث تكون.
نقلا عن المصري اليوم


More Delicious Digg Email This
Facebook Google My Space Twitter
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع