مَن الذي روى الرواية؟
بما أننا في موسم قضايا الحِسبة وفائض تُهم ازدراء الأديان التي تُلقَى جزافًا على عباد الله، فيُقدَمون للمحاكمة تمهيدًا لإيداعهم غرفًا مظلمة في غور السجون، وبما أنني إحدى أولئك المهددين بالسجن بتهمة ازدراء الأديان بسبب بوست عابر على صفحتي في فيس بوك (وليس مقالا في جريدة أو مجلة أو كتاب!)عاتبتُ فيه المستهينين بحق الحيوان في أن يحيا بكرامة وأمان وأن يُذبح برحمة وتحضّر قبل تقديمه أضحيةً لفقراء الله، ولأنني أنتظر جلسة ٢٦ يناير الراهن للنطق بالحكم في قضيتي، ولأنني سأقبل الحكم راضيةً مرضية مهما كان، لرهاني على وعي القضاء المصري واستنارته وعدله، وبما أن دستورنا المحترم ٢٠١٤ يرفض حبس مواطن مصري قال رأيًا أصاب أم أخطأ، ولأن مقالي اليوم ليس رأيًا بقدر ما هو سردٌ لقصة طريفة أودُّ أن تشاركوني متعة قراءتها، فإنني أحكيها لكم من أجل بهجتكم أولا، وثانيًا ربما لتفتح شهية أحد مهاويس الشهرة ليرفع ضدي قضية جديدة، تُضافُ إلى رصيدي من المظالم التي سأقف بها أمام الله أشكو افتراء الإنسان على أخيه الإنسان وتكميم الأفواه بعد ثورتين مجيدتين وقص الألسن في ظل دستور يدعم الحريات، وثالثًا، وهو الأهم، حتى أعيد طرح الفكرة التي جفّ حلقي في طرحها، وهي: مَن الذي يزدري الدين: الذي يدّعي على الدين ما ليس فيه، أم الذي يُشير إلى هذا الدعيّ الكذوب بإصبع الاتهام؟!
قصة: الشيخ والجمل واللصوص الثلاثة
يُحكى أن شيخًا مسلمًا كان يخطب في قومٍ من المسلمين الطيبين. ويحاول مخلصًا أن يعلّمهم أن المال الحرام لا يفيد، مهما كثرت مغانمُه وسَهُل مناله. فقصّ عليهم هذه الحكاية الظريفة زاعمًا أنها من قصص السلف الصالح:
يُحكى أن 'ثلاثة لصوص سرقوا جملاً من إحدى الحظائر، ثم فروا به نحو الجبل. اتفق لصان من الثلاثة على اللص الثالث، وقتلاه؛ لكي يقتسما قيمة الجمل وحدهما، فيقسماه على رجلين اثنين بدلا من تقسيمه على ثلاثة. بعد برهة فكر لصٌّ من اللصين في ذات الحيلة الفاحشة، فقتل رفيقه اللص المتبقي لكي ينفرد بالجمل وحده. صعد اللص الوحيد الحي بغنيمته إلى أعلى الجبل. فما كان من الجمل الطيب إلا أن ركل اللصَّ فوقع من أعلى الجبل، ومات من فوره صريعًا. عاد الجملُ الذكيُّ الفطن إلى صاحبه الأصليّ وبات الجميع فرحًا مسرورًا.” إلى هنا تنتهي القصة المؤثرة ذات الدلالات العميقة.
'الآن، هتف الشيخُ الجليل في مريديه: 'هكذا يا أبنائي نتعلم الدرس المهم: المال الحلال عمره ما يضيع أبدًا. تكبييييير.'فكبَّر الحضورُ ثَلَاثًا.
قام شابٌّ ناصح العقل وسأل الشيخَ الجليل: "يا مولانا، إذا كان اللصوص الثلاثة قد ماتوا جميعهم، فكيف عرفنا ما حدث لهم؟ مَن حكى الحكاية حتى تواترت عن الأثر ووصلت إلينا؟هل حكاها الجمل؟”
'هنا، صمت الشيخ الجليل برهة وجيزة، ثم هتف في الحضور بأعلى الصوت: تكبيييير. فكبروا ثلاثًا، وحمدوا الله وأثنوا عليه كثيرًا، بعدما أدركوا الحكمةَ البليغة من الدرس الذي ألقاه الجمل الحكيم: الجريمة لا تفيد والمال الحرام مبيدومش.
***
انهت القصة الطريفة، ونعود إلى الشاب الناصح الذي سأل سؤال بسيطًا جدًّا، منطقيًّا جدًّا: مَن الذي روى الرواية؟ للقصة المذكورة أربعة أبطال، لا غير. لصوص ثلاثة، وجمل أعجم. مات اللصوص ولم يتبق إلا الحيوان، الذي عاد إلى حظيرته سالمًا غانمًا. فكيف عرفنا تفاصيل الحكاية؟
هذا الشاب الطيب صاحب السؤال البسيط، تُرى ما مصيره؟ هل حُكم عليه بالموت لأنه عارض شيخًا جليلا؟ هل رفع أحدهم ضده قضية ازدراء أديان وحُكم عليه بالسجن؟ هل أُفتي بارتداده فطعنه متطرفٌ بخنجر في عنقه؟ هل حكم القضاء بالتفريق بينه وبين زوجته لأنه كافر؟ أو، هل في أفضل الأحوال تحلّق المصلّون حوله بعد انتهاء الخطبة وأشبعوه ضربًا وركلاً وسبابًا ولعانًا لأنه تجرأ و"سأل" الشيخ، وأحرجه؟
دعك من الأسئلة السابقة التي لا نعرف لها إجابة لأن الأثر لم يخبرنا عن مصير ذلك الشاب باعتباره نكرة كافر لا قيمة له حتى يُدوّن في كتب التراث. دعونا نسأل عدة أسئلة أهم:
١- من المخطئ: الذي يُخطئ، أم الذي يشير إلى المخطئ ويقول: هذا مخطئ؟
٢- هل الدين هو القرآن الكريم، أم هو الشيخ فلان والشيخ علان؟
٣- هل الشيخ فلان بشرٌ مثلنا يخطئ ويصيب، أم هو قدسي مقدس أقدس معصوم عن الخطأ، فوجب تقديس أقواله وإن كانت مثيرة للضحك والسخرية؟
٤- من الذي يزدري الدين في القصة السابقة، إن كان هناك أصلا معنى لتهمة ازدراء الأديان: الشيخ الذي يؤلف قصصًا لا تقنع طفلا صغيرًا وينسبها إلى تراث السلف؟ أم هذا الشاب الجسور الذي حاول أن يفضح رجلا أفاقًا يدلّس وينسب للسلف ما ليس له؟
والسؤال الأخير:
هل أنتظرُ قضية جديدة ضدي بعد هذا المقال باعتبار هذا الشيخ هو ظل الله على الأرض وعالم من علماء الدين من ذوي اللحوم المسمومة؟
نقلا عن مجلة (٧ أيام)