لا يتجاوز ما تشهده تونس القوانين الطبيعية للثورات، وبروز تحديات اقتصادية واجتماعية في الفترات الانتقالية، يعقدها ازدياد مخاطر انتشار الإرهاب.
وتكشف التظاهرات الجهوية في المناطق النائية جنوب البلاد عن فشل الحكومات المتعاقبة في تحقيق أهداف ثورة الياسمين في الحرية والكرامة.
فالثورة على نظام الرئيس المخلوع انفجرت نتيجة تراكم المطالب الاقتصادية والاجتماعية مع الخلل الواضح في تجربة تونس في مجال التنمية الجهوية للمناطق البعيدة عن الساحل ومركز العاصمة.
وطغت حالة الاصطفاف السياسي الحادة والتنافس على سلطة الأجندة السياسية على البحث عن حل المشكلات الاقتصادية والاجتماعية ما تسبب في تأجج الاحتجاجات من جديد.
ووجه الإرهاب ضربة قوية لقطاع السياحة والقطاعات المرتبطة به ما تسبب في تراجع النمو الاقتصادي وزيادة العاطلين عن العمل.
وفي وقت يجمع المراقبون والخبراء على أن الثورة في تونس شكلت استثناء واضحا عن مسيرة باقي ثورات "الربيع العربي"، يسود الاختلاف حول الأسباب، وواضح أن تماسك المجتمع التونسي الاثني والمذهبي لعب دورا في عدم تشعب الصراعات، كما أن وجود مؤسسات قوية في تونس ساهم في قسط كبير من الاستقرار النسبي.
ولعل اختلاف بنية وتكوين وظروف نشوء حركة "النهضة" إسلامية التوجه لعب دورا إيجابيا في السنوات الخمس الماضية على عكس دور الأحزاب الإسلامية في البلدان العربية، فالحركة نشأت في ظروف مجتمع علماني، ولم تسعَ إلى الاستئثار بالسلطة وعملت على تشكيل ترويكا حاكمة مع من رغب من باقي الأحزاب، التي حازت نسبا أقل في الانتخابات.
ومن الاجحاف بمكان انكار دور "النهضة" في تجاوز حالة الانسداد السياسي بالتخلي عن السلطة، وقبلها في المحافظة على مكتسبات المرأة والشغيلة، وعدم محاولة "أسلمة" مؤسسات الحكم.
وبداهة فإن مسيرة الثورة اعترضتها "الدولة العميقة" من أنصار النظام السابق، والفئات الاجتماعية غير المستفيدة من التغيرات، إضافة إلى التدخلات الأجنبية بهدف حرف الثورة عن مسارها أو احباطها، وقياسا فإن قوة العناصر السابقة تعادل قوة "ثورة مضادة" أو ربما أكثر، لكن تونس استطاعت تجاوز المشكلات بطرق حضارية، واتمام عمليات الانتقال الديمقراطي للسلطة في أكثر من مناسبة، ويجب عدم إهمال عامل مهم وهو ارتفاع سقف مطالب الناس وطموحاتهم في الفترات الانتقالية بعد الثورات، فمعظم الفئات الاجتماعية تعتقد بأن انتصار الثورة بإزالة نظام الحكم السابق يعني بشكل آلي تحقيق جميع المطالب ورفع مستوى المعيشة، وهو ما لم يتحقق في التجربة التونسية، أو أي تجارب ثورية أخرى وفق مبدأ "كن فيكون"، بل على العكس قد يتراجع المستوى لفترة قصيرة قبل معاودة الانطلاق إلى الأمام.
وواضح أن الوضع الاقتصادي بات أصعب بكثير من فترة ما قبل الثورة وهو ما تكشف عنه البيانات والمؤشرات، فمعدل النمو حتى نهاية الربع الثالث من العام الماضي بلغت 0.7 في المئة على أساس سنوي، وللمقارنة فإن الاقتصاد التونسي نما بمعدلات تزيد عن 5 في المئة قبل الثورة حسب المؤسسات الدولية.
وكشفت وزارة المال التونسية أن نسبة الدين العام ارتفعت من نحو 40.3 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2010، إلى حدود 52.7 بالمئة في عام 2015، واظهرت بيانات المصرف المركزي التونسي أن العجز في الموازنة التونسية ارتفع إلى 7.9 في المئة من حجم اقتصاد البلاد حتى بداية ديسمبر/كانون الأول 2015.
وتجمع عدد من العوامل السلبية في عدم تحقيق نسب نمو مرتفعة في السنوات الماضية، فأجواء عدم الاستقرار السياسي والأمني في محيطها خفف من جاذبية تونس الاستثمارية، كما أن الاضرابات والاحتجاجات المطلبية لعمال مصانع الفوسفات كبدت البلاد خسائر تتجاوز ملياري دولار أمريكي في سنوات ما بعد الثورة.
وتسببت موجات الجفاف في تراجع انتاج محاصيل مهمة مثل الحبوب، التي هوى انتاجها بنحو 40 في المئة في العام الماضي، ويضاف إلى كل هذا تبعات أزمة الديون الأوروبية وانعكاساتها سلبا على حجم الصادرات التونسية إلى بلدان الاتحاد.
ومع تحقيق معدلات نمو تقدر بنحو 1.6 سنويا في أعوام ما بعد الثورة عجزت الحكومات المتعاقبة عن حل أزمة البطالة، وحسب البيانات الرسمية فإن معدل البطالة ارتفع في العام الماضي إلى 15.2 في المئة، مع ملاحظة أن البطالة ترتفع في صفوف الجامعيين إلى 30 في المئة.
ويكشف تجدد التظاهرات في الجنوب عن فشل ذريع في ايجاد نموذج تنموي جديد يراعي زوال الفروق الاجتماعية، والجهوية، كما ويقدر خبراء أن تونس تحتاج إلى معدلات نمو تتجاوز 8 في المئة سنويا لحل مشكلة البطالة، وربط التعليم باحتياجات سوق العمل لوقف الهجرة والاستفادة من كل الكفاءات وإنهاء البطالة في صفوف خريجي الجامعات.
وزادت الهجمات الإرهابية من أزمة الاقتصاد التونسي، ففي العام الماضي تسببت عملية متحف باردو، وبعدها الهجوم في سوسة في شلل القطاع السياحي، الذي يشكل نحو 20 في المئة من حجم الاقتصاد التونسي، ويرفد الخزينة التونسية بقرابة 1.5 مليار دولار سنويا، ويوفر نحو نصف مليون فرصة عمل مباشرة، مليوني فرصة عمل في قطاعات النقل، والصناعات التقليدية، والمطاعم.
ودفعت المخاطر الأمنية في تونس وليبيا ومنطقة الصحراء الكبرى الحكومات على زيادة الانفاق على الدفاع والأمن إلى قرابة 15 في المئة من الموازنة من نحو 2 في المئة قبل الثورة، ما يعني حرمان قطاعات أخرى مثل التعليم والصحة من موازناتها وتراجع الاستثمار في مشروعات جديدة كان يمكن أن تستوعب أعدادا كبيرة من العاطلين عن العمل.
وأخيرا فإن فصل الصراعات السياسية عن الأجندة الاقتصادية كفيل بحل كثير من المشكلات، التي تعترض تونس لنشر رائحة ياسمين ثورتها في البلاد وخارجها، ومؤكد أن الرهان اليوم هو على استمرار سياسة الاحتكام إلى الديمقراطية والحوار كما سارت الأمور في السنوات الخمس الماضية، حينها تواصل تونس إبهار العالم ولا تشفيهم من حبها.
تنوية هام: الموقع غير مسئول عن صحة أو مصدقية أي خبر يتم نشره نقلاً عن مصادر صحفية أخرى، ومن ثم لا يتحمل أي مسئولية قانونية أو أدبية وإنما يتحملها المصدر الرئيسى للخبر. والموقع يقوم فقط بنقل ما يتم تداولة فى الأوساط الإعلامية المصرية والعالمية لتقديم خدمة إخبارية متكاملة.