الأحد ٣١ يناير ٢٠١٦ -
٢٠:
٠٩ ص +02:00 EET
بقلم : مدحت بشاي
medhatbeshay9@gmail.com
أتذكر ، عقب حادث حريق مجلس الشورى الذي روعنا وأحزننا جميعا أن يأتي على صرح تاريخي ورمز حضاري نعتز بوجوده كان من التداعيات التلقائية التنادي بإنشاء مجلس أو هيئة قومية لإدارة الكوارث والأزمات ..
مجالس .. مجالس .. مجالس .. حتى بتنا وكأننا ننشد لكل مواطن مجلس !! .. ويسأل المواطن في بلادي عن أسباب ظاهرة إنشاء هذه المجالس بمجرد حدوث أي أزمة أو كارثة أو حالة اهتراء وتداعي لمنظومة عمل حكومي ما والخروج عن النظام والعيش في حالة توهان وضياع ، فعندما يجمع المتخصصون والأكاديميون على تشخيص لحالة ما من الفشل تتجه الحلول نحو ضرورة إنشاء مجلس ، وفي العادة يُطلق عليه مجلس قومي ، وفي الأكثر الأعم من الحالات تكون تبعيته إلى السيد رئيس الجمهورية أو في بعض المرات القليلة تابعاً لمجلس الوزراء .. وكأن في إنشاء تلك المجالس الوصفة السحرية لعلاج كوارث وإخفاقات المسيرة الإنسانية والمجتمعية والوطنية على أرض الكنانة الغالية .. فإذا كان هناك إخفاقات في مسيرة التعليم فالحل في مجلس ضمان الجودة ، وإذا كان هناك تنادي إلى ضرورة دعم وجود المرأة وتمكينها من حقوق كان المجلس القومي للمرأة.. مجلس أعلى للأجور للتعامل مع صخب أهل الدواوين الحكومية المظاليم ، ومجلس وطني لحقوق الإنسان عندما تطفو على السطح أزمات طائفية أو حالة احتقان بين أصحاب الطوائف والمعتقدات ، والحقيقة ـ للأسف ـ وعلى أرض الواقع تم بالفعل إنشاء مجالس تقرر وجودها بقرار حكومي تتحرك بعد جمود في رد فعل لمجرد إعلان التفاعل والوجود بعيداً عن جودة وضبط الأداء الذي يعتمد التخطيط الرصين الحكيم الفاعل والمؤثر في حياة الأمة والبشرفي اتجاه إحداث التغيير لتحقيق التقدم ..
في جامعاتنا المصرية يتعجب الأساتذة من وجود مجلس أعلى للجامعات ويسألون عن دور هذا المجلس العتيد مع أن هناك وزارة للتعليم العالي ورئيس المجلس هو الوزير فبأي قبعة يجلس على مقعد رئاسة المجلس وعندما يخلعها على باب الوزارة فأي قبعة أخرى يرتدي ؟! ..
وإذا كان للمجلس دور جديد يُضاف إلى دور الوزارة ـ وهو ما لا يعكسه واقع العمل بالمجلس فيما أرى ـ فإن الأمر كان يستدعي إضافة غرفة في الوزارة تُخصص لإدارة ذلك العمل ، أما إنشاء كيان ضخم يُخصص له مبنى كبير أربعة طوابق وتعيين خبراء ومجموعة من المستشارين واجتماعات ولجان وأجهزة إدارية تم تجهيزها وميكنة الأداء بها بشكل معاصر للإشراف على لجان الترقيات واللجان النوعية العليا كأنها من الأمور المنبتة الصلة بالوزارة فهو أمر يثير التعجب في بلد ينشد الترشيد في النفقات لا التوسع الوهمي !!
ثم يكثر الحديث عن الجودة ومعاييرها وتطبيقاتها العالمية في مجال التعليم ويلتقط أصحاب المصالح أطراف القضية ويتم تصعيدها لتحقيق الهدف القومي الرائع وهو تحقيق الجودة ليكون مجالاً عظيماً لضخ موارد تشكل سبوبة عبقرية جديدة لأكاديميي البيزنس ( إن صح المسمى ) ليتحلقوا حولها بالتنظير وكتابة المقالات وإعداد الهياكل الإدارية والأكاديمية لهذا الصرح العبقري والحديث عن هذا الحل الجهنمي لإصلاح ما أفسده الدهر في مؤسساتنا التعليمية لتصبح مؤسسات ذكية بحثية معملية فذة ( على رأي الكوميديان الراحل يونس شلبي ) ..
يحدث هذا بينما الجميع على مستوى الوزارة وفي الجامعات من أساتذة وخبراء وعلماء لديهم يقين كامل باستحالة الوصول إلى الجودة الفعلية في ظل ظروف تحول دون تطبيق معاييرها في جامعاتنا والتي من بينها على سبيل المثال الكثافة العددية الهائلة لطلابها ، التجهيزات المعملية والمكتبية المعاونة لعمليات البحث والتجربة والإنتاج العلمي نظراً لمشاكل تتعلق بالتمويل واستقلال إدارة الجامعات في القرار والحرية الأكاديمية في اختيار أشكال وأنماط التحديث ، والأعباء الهائلة الملقاة على عاتق الأساتذة أصحاب الخبرات المطلوبة لدرجة ظهور الأستاذ المتنقل والذي يطلقون عليه " أستاذ شنطة " لأنه دائماً يحمل حقيبة المسافر إلى بلاد تشيله من جامعة القاهرة إلى أخرى في وادي حوف ، ومن جامعة عين شمس إلى جامعات في آخر الدنيا لاتدخلها الشمس..
إن الجامعات تواجه معوقات صعبة الحل وكان المأمول قبل الإقدام على تخصيص هذه النفقات الهائلة لإنشاء هذا المجلس أن يتم تمويل الجامعات للتعامل مع هذه المعوقات بعد أن تم توصيفها من زمن بعيد ، بل ووضع الحلول من قبل خبراء عبر عشرات المؤتمرات والخطط الورقية ولجان سبوبة الاسترزاق ..
الجامعات تعلم الوسائل الموصلة للجودة منذ أكثر من 50 سنة .. لقد طالعت تحقيقاً صحفياً رائعاً للكاتب الصحفي الكبير صبري أبو المجد في 25 نوفمبر 1955 مندوب المصور في تلك الآونة تحت عنوان " كيف نسمو برسالة الجامعة ؟ " .. حيث التقى "أبو المجد" قيادات الجامعات الموجودة في تلك الآونة ، وجاء في التحقيق أن قضية الجامعة هي قضية مصر ، ويقول المحرر عن حكومات سابقة " إن قيادات الجامعات كانوا يتخبطون في سياستهم الداخلية والخارجية خبط عشواء .. فلا برنامج .. ولا تخطيط ! .. وأمل هذا البلد أن حاكميه اليوم يؤمنون بالبرنامج ، ولا يسيرون خطوة بغير تخطيط للخطوات التالية ثم يصل إلى حد القول أن آلاف الشباب يقفون على أبواب الجامعة ، يدقون هذه الأبواب بعنف .. إنهم يريدون الدخول ، وآلاف من الشباب خارجون من أبوابها .. إنهم يريدون العمل .. يريدون الحياة .."
هكذا استهل المحرر هذا التحقيق منذ أكثر من نصف قرن ، بل ويضيف "هناك جيش من الشباب يزيد على خمسين ألفاً ، تفتحت لهم أبواب الجامعة .. ولكن لهم ألف مشكلة ومشكلة في حاضرهم .. وأمامهم المشكلة الكبرى .. المستقبل ! ".. ما أود العودة للإشارة إليه متعجباً وجود هذا العدد الهائل من المجالس القومية العليا .. ويظل السؤال عن العائد والمردود الحقيقي من محصلة إنتاجها الذي بات غائباً أو محدوداً على أرض الواقع ؟! .. ويا مجالسك يا حكومة المحروسة أما من دور يبرر وجودك ؟!!