الأقباط متحدون - .. ومازلت أندهش!
أخر تحديث ٠٤:٥٦ | السبت ٦ فبراير ٢٠١٦ | ٢٨طوبة ١٧٣٢ ش | العدد ٣٨٣٠ السنة التاسعة
إغلاق تصغير

شريط الأخبار

.. ومازلت أندهش!

مفيد فوزي
مفيد فوزي

طول عمرى ألجأ إلى محطة «العتاب» قبل أن ينطلق قطار الغضب إلى مداه، وينجح العتاب كثيراً فى كسر طوق الكره والغضب، وفى فجر مشوار عمرى نصحنى صديق أطلقت عليه «الحكيم سليمان» يوم قال لى «احذف من قاموس حياتك كلمة دهشة ومشتقاتها»، واستقبلت النصيحة ببعض الهزل ولكنى لم أفصح له عن مشاعرى لأنى كنت أرى أن الدهشة من سمات الإنسان، فكيف أحذفها من قاموس العمر، وظلت نصيحة الحكيم سليمان تستيقظ فى رأسى كلما مر بى شىء مفاجئ يثير دهشتى. ذات صباح لا أنساه جمعتنى جلسة حول فنجان شاى مع عقل موسوعى لم يأخذ حقه بعد رحيله، ويومها قلت إن «الموت حظوظ». أتكلم عن المفكر المصرى سلامة موسى وكان له مكتب صغير فى نهاية صالة التحرير اختاره بنفسه، كان سلامة موسى عقلاً كبيراً ويملك تواضع العشب، وفى جلستى معه فى «أخبار اليوم»، ألقيت له بحمولتى وهى نصيحة «الحكيم سليمان» التى لخصها فى كلمة واحدة: لا تندهش! وقال لى المفكر سلامة موسى: أنت لا تملك أن تمنع نفسك من الدهشة لأنها «مشاعر فجائية عفوية» ولكنك تملك أن تسلط عليها مصابيح العقل فتراها فى حجمها الحقيقى، وهنا تزول الدهشة. قلت للمفكر الكبير إن مصابيح العقل تحتاج إلى قدر كبير من الموضوعية التى قد لا تتوفر لمواجهة الدهشة، رد العقل الكبير وقال: هذا هو الفرق بين عقل وعقل، هناك عقول لديها مناعة ذهنية وهناك عقول لديها انسيابية عاطفية، هناك عقل «يفهم فلا يحزن»، وهناك عقول «تواجه الصدمة بأعصابها»، لا أنسى عبارة سلامة موسى «من يندهش لديه إحساس فقط يحتاج إلى الكثير من الرشد»، فهل استطعت أن أكف عن الاندهاش؟

■ ■ ■
وخرجت إلى الحياة العملية أكثر، وأحمل الآن فوق ظهرى سنين تجربة وتجارب، بعضها أصقلنى وبعضها «قطم وسطى»، وكنت دائماً أواجه الصدمات وغرائب البشر بالدهشة والاستنكار وعلى لسانى دائماً كلمة «معقولة؟؟؟؟» وعلامات الاستفهام بحجم دهشتى، وما استطعت دائماً أن أحجب دهشتى مما يقع أمامى من أحداث أو معى من «سفالات النفوس البشرية». حاولت أن أطبق نصائح سمعتها من نصف قرن فاكتشفت أنى غير قادر على تغيير طبيعتى، حاولت أن أسلط عقلى على مشاعر الدهشة فاكتشفت أنى غير موضوعى والحياد صعب ولم أفقد بعد نعمة الإحساس وأصبح جبلاً من الجليد، كنت أواجه كل شىء بأعصابى ومرضت ونصحنى أول طبيب بأنى «أطنش وأبلع»، كان الكلام سهلاً كنصائح ولكنه كان صعباً فى التنفيذ، لم أستطع أن أكون «بارداً» فى استقبال الصدمات، والصدمة هى الفرق بين التوقع والواقع، أى بين المفترض والحادث، فأنا أتوقع من زميل العمر الدماثة، فإذا صارت «سفالة» لابد أن أندهش وأندهش وأندهش، وأنا أتوقع ممن قدمت لها خدمات العمر ووقفت إلى جانبها بلا هوى مشاعر الود والامتنان وليس الغدر والندالة والخسة!

أدركت بعد فوات الأوان أن المشكلة تكمن فى كلمة التوقع، فحين نتوقع فإننا «واثقون تماماً من صدق توقعاتنا»، وبالتالى نتوقع الأفضل وحين يأتى التوقع مغايراً عن المفترض تكون الصدمة، الزوجة التى تكتشف أن زوجها تزوج أعز صديقاتها لابد أن تكون مصدومة وقريبة من مرحلة الجنون، الصديقان الحميمان اللذان لا يفترقان وحياتهما معاً حينما تطفح ندالة أحدهما على السطح، تكون الصدمة حادة، ولابد أن يكون السبب إما صفقة مالية أو امرأة جميلة.

وكان أحمد بهاء الدين يقول «لا يكشف الرجل إلا ثلاثة: المرأة والمال والمنصب»! وكنت على مر أيامى قد تعرفت على د. سيد عويس، المفكر الاجتماعى الكبير، الذى أوجز لى الحياة فى عبارة بليغة هى «شبكة متناقضات» وبدأت أكتب عن «قارة النفس البشرية» وكيف أنها «غرائب وأحوال ومتناقضات وفى النهاية مزيج من كل هؤلاء»، كنت أدرك أن هذا الفهم يجعلنى أميل إلى رؤية ما يجرى أمامى فى حجم أقل، فنحن عادة نضخم ما يحدث لنا ونضيف إليه سيناريوهات ربما لم تحدث ولكنى لم أمتثل للنصائح بتقليل حجم «الاندهاش والصدمة»، الصدمات السياسية فى قلم السياسة شىء وارد، والدبلوماسية تتأرجح وفقاً لمصالح الدولة، ولا يوجد عداء مستمر ولا صداقة مستمرة بين الدول وذهاب حكومة وميلاد حكومة جديدة وارد فى بلاد العالم الثالث ولا يشكل أى اندهاش أو صدمة، وسقوط قطار من فوق القضبان أو ارتطامه بمزلقان وارد فى دول مازالت المزلقانات فيها على طول قضبان السكك الحديدية، ولا يحدث الدهشة. غرق معديات دون ترخيص وتحمل أعدادا أكبر من المسموح لا يصيب بالدهشة، لأننا بلاد استرخاص أرواح البشر ومثل هذا الحادث يجلب الحزن لا الدهشة.

■ ■ ■
لا شىء يصيب الإنسان بالدهشة إلا التصرفات البشرية لأنها «بشرية»، خصوصاً فى حالات «العشم» والعشم من الخصائص المصرية التى يحرص عليها الناس فى التعاملات، فإذا انكسر هذا العشم أو تصدع حدثت الصدمة والدهشة، فى المثاليات الأخلاقية نحن مطالبون بالصبر عند البلاء، صحيح أن الله ضابط الكون ولكن ذلك لا يمنع التساؤلات حول الأسباب والدوافع، هناك بشر يقابل الابتلاء بالصدمة- على اختلاف أنواعها- بالصمت، حيث لا ينفع الندم أو الدهشة، يرون أن ما جرى هو سيناريو إلهى ولهذا يستقبلون الحدث أو الحادث بمرجعية دينية، أما الحوادث الحياتية الشخصية فهى تثير الغضب وتصيب بالصدمة والدهشة، ذلك أنها نتاج «قارة النفس البشرية»، متناقضاتها الحادة، حين يحصد الوباء الأرواح، فلا دهشة لأن الصدمة حدثت وانتهى الأمر، ولكن حين ينسحب سياسى بارز من موقعه فى وقت يتصف بالحرج والحساسية فلابد من الدهشة والصدمة لأنه «سلوك بشرى».

■ ■ ■
ياما حاولت أن أبدو صلباً أمام النكسات الشخصية وصدمتى فيمن كنت أظن أنهم «حبايبى وعيلتى والمجتمع والناس» ثم فوجئت أنهم عكس ذلك تماماً، وكثيراً ما جلست وحدى أفكر وأحلل أسباب «الندالة»، وأكتشف أنها ليست «مصالح» فقط إنما «جينات» وتربية وبيئة، وليس بالضرورة أن يكون مرتكب الندالة يحيا فى عشوائيات، فأكبر المهاميز- مفردها مهموز- تأتى من «أولاد النخب» السياسية والاجتماعية وقد يأتى المهموز من مليونير!

ياما حاولت أن أضرب توقعاتى حتى لا تضربنى فى موقع وفشلت. إنى أتلقى «الصدمات» فى البشر بهدوء فى بادئ الأمر ثم أكتشف عمقها بعد قليل، علمنى د. بطرس بطرس غالى أن «الصدمات فى البشر» كائن فى الحياة وجزء من ناموسها وتلافيفها والمطلوب منى «التسليم»، فهذا أول وقاية من إثارة النفسية التى قد تطال الجسد، وفى التاريخ عبارة شهيرة تشى بهذه الصدمة وهى «حتى أنت يا بروتس»؟ ولأن المصريين يلعبون على وتر العشم، تأتى الصدمة قوية، والحس الشعبى يقول «متعشم فيك» أى أضمنك تماماً ولن تخذلنى، وفى الأمثال الشعبية يقولون «تزرعه يقلعك»! إن فى تراثنا حالات ندالة ظلت على مدى التاريخ مضرباً للأمثال ومجالاً للبحث والتوثيق، وأغلبها حول عروش أقيمت وعروش سقطت وملوك جاءوا وملوك رحلوا!

ياما حاولت النسيان لهذا الخذلان ولكنه كان يجرنى إلى تذكر، حاولت أن أفند وأحلل ولكن رائحة الندالة كانت تزكم أنفى، ولا أريد أن أعرج على مواقف تندى بالخجل ولكنها لن تفلت من شباك التاريخ الذى يرصد كل حادثة وكل موقف بتجرد تام، وقد كانت بعض البذاءات فى أعقاب ثورة يناير تؤكد أن أسوأ ما فى الشعب المصرى سمعناه ورأيناه، وضربنا فى الصميم ونعانى من آثاره.

■ ■ ■
هل وعيت الدرس؟

هل قننت دهشتى؟

أبداً..

مازلت أندهش!
نقلا عن المصري اليوم


More Delicious Digg Email This
Facebook Google My Space Twitter
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع