كان إسم «جروبي» أسطوري بالنسبة للمصريين، بالذات للذين عاصروه حينما كانت أفراد عائلة «جروبي» تُدير العمل بنفسها، كان المكان يتسِم بالأناقة وكانت الخدمة مميزة، كان النوبيون والسودانيون، الذين يعملون على خدمة الزبائن، يتمتّعون بالإحترافية والبشاشة والذوق، والتواضع مع الإحتفاظ بكرامتهُم،لم يبخسوا بأنفسهُم ولم يتعالوا على الناس، فكان «الزبون» يُحب الذهاب إلى «جروبي». وأغلب الزبائن من البشوات، ويقول، أقدم خادم بالمقهى: «كُنا نحفظ طلبات الزبائن».
تلكَ كانت المُقدمة التى عرضَها، التلفزيون السويسري، لفيلم بعنوان رحلة نجاح جاكومو جروبي، السويسري الأصل، وعائلتُه في مصر، وكيف مرّت هذه المؤسسة الفريدة عبّر الحقب السياسية، والإجتماعية المختلفة مُنذ الحرب العالمية الأولى، ومرورًا بالثانية، وحريق القاهرة، وثورة 1952، بالإضافة لعصر عبد الناصر والسادات.
ولدَ جاكومو جروبي في روفيو سنة 1863، تعلم صناعة الحلويات من أقاربُه، أولاً في لوجانو ثُم في مرسيليا، ثم انتقل للعمل في القاهرة، وبعد فترة وجيزة في القاهرة، انتقل إلى الإسكندرية، وفي سنة 1890 اشترى محل من جاكومو جيانولا، في شارع رودي فرانس.
وفي سن السابعة والعشرين، بدأ في التوسع وافتتاح محال أخرى، ويقول، آكيلي جروبي، مُدير جروبي: «تشجّع جاكومو جروبي للذهاب إلى مصر، بعد سماعه للأخبار الجيدة التي كانت تصله، عن مرحلة النمو الاقتصادي، وخاصةً بعد افتتاح قناة السويس. فانتقل لمصر لكّي ينضم لأقاربُه من عائلة جيانولا من قربة بيسوني».
وبسبب شعوره بالحنين إلى موطنه الأصلي، عاد جاكومو جروبي إلي بلده في بدايات القرن العشرين، بعد أنّ نجح في تكوين ثروة لا بأس بها في وقت قصير، ولكنه سرعان ما خسر أمواله في استثمارات خاطئة. فيقرر الرجوع إلى مصر ليبدأ من جديد.
وفي فترة وجيزة تكلّلت مساعيه بالنجاح، وأصبح يمتلك محل شهير للحلويات بالإسكندرية، ولكن بعد سنوات قليلة، قرر أنّ يبيع المحل قباعُه إلى رجل فرنسي لأنه قرر الرجوع إلى وطنُه الأم غالبًا بسبب شعوره بالحنين لقريتُه.
ومن حُسن حظ جاكومو أنّه خسر أمواله، التي كسبها في مصر، خلال سنوات عمله بها، ليُقرر أنّ يبدأ من جديد. وفي سنة 1906 افتَتح محل جديد، لبيع الحلويات في القاهرة وحاز على نجاح كبير منذ يومه الأول، ثُم قامت الحرب العالمية الأولى، والتي سبّبت الدمار لجيلاً كاملاً. ولكنها جلبت لهُ الخير بسبب نقل بريطانيا لجميع مقار قيادة جيوشها في البحر المتوسط والشرق الأوسط والشرق الأقصى إلى مصر.
وعندّما قرر الجيش صناعة «يونيفرم» جديد، ليرتديه الجنود في أوقات النزهة، وكانوا يطلقون عليه «يونيفرم» جروبي. هكذا سمعت. كمّا توقف جاكومو جروبي عن العمل، ورجع إلى بلاده في سن صغيرة نسبيًا، وترك الشركة لإبنُه، أكيلي جروبي الذي سار على نهج أبيه.
فبعد نهاية الحرب العالمية الأولى، أسس أكيلي في وسط القاهرة الحديثة، محل كبير وخصص الدور الأرضي منه لتقديم الحلويات والقهوة وأنشأ صالة كبيرة. اطلق عليها اسم «روتوندا» نسبةً إلى شكلها الدائري. وكانت تلك الصالة بمثابة ملهى أو صالة للرقص، على غرار صالات الرقص الأمريكية، واحدثت هذه الصالة شهرة كبيرة.
أكيلي جروبي كان يتحدث العربي بطلاقة، لأنّهُ ولد وترعرع في مصر، وكان يتمتع بذوق رفيع، فنجح بتحويل المشروع الصغير إلى مؤسسة كبيرة خطوة بخطوة وحولها إلى صناعة للمأكولات على نطاق كبير.
فعندّما عاد إلى مصر من رحلة دراسية في أمريكا، افتتح محلين لبيع المأكولات السريعة، على نظام «الفاست فود»، وكان أول من أدخل الآيس كريم إلى مصر على نطاق صناعي، ثُم أسس مزرعتين تمتعتا بنجاح كبير؛ الأولى كانت في شمال شرق القاهرة، على بُعد 30 كم عن وسط المدينة، كانت تحتوى على 500 رأس من الأبقار، و500 رأس من الجاموس. لإمداد المعامل بالألبان اللازمة لصناعة الآيس كريم ومنتجات الألبان المُختلفة، أما المزرعة الثانية فكانت عبارة عن حدائق رائعة بجوار نهر النيل، على بُعد 15 كم من القاهرة، على طريق صعيد مصر كانت تُزرع بها الأعشاب الخاصة والفواكة المختلفة التى لم تكُن متوفرة في مصر.
توفى أكيلي جروبي فجأة في سن مُبكرة سنة 1949، فطلب جاكومو جروبي الأب من إبن أخته، أكيلي بيانكي، الذي كان يعيش في مدينة «لوجانو» للذهاب إلى مصر، لمساعدة حفيدة في مصر على إدارة أعمال «جروبي». اتبّع الشابين نصيحة أكيلي جروبي في تنويع وتوسيع نشاط الشركة، فأصبح عدد العاملين بالشركة يُقدر بالآلاف.
ويقول، أكيلي بيانكي، «اضطررت للذهاب إلى مصر، لمساعدة خالي، وساعدت إبن خالي شيزاري جروبي، الذي أرسلهُ خالي للعمل في مصر قبل الحرب، فتعاوننا سويًا وقمنا بالإدارة، إلى أنّ جاء اليوم لتصفية كُل شئ نظرًا للظروف السياسية».
كانَ المناخ في الشرق الأوسط يتغيّر، وبالتالي أثر على شركات الصناعات الغذائية، فبجانب محال الحلويات والأطعمة الأمريكية والمزارع، كانت مؤسسة «جروبي»تمتلك أكبر مصنع مصري لصناعة المُثلجات. وبعدها كان آيس كريم جروبي يُباع في جميع أنحاء مصر، ويقول، آكيلي جروبي: «اعتمدنا على اللغة الفرنّسية للترويج لمُنتجاتنا لأنّها كانت اللغة الأساسية في مصر آنذاك». ويُضيف: «ذهبت إلى مصر في عصر الملكية، في عهد الملك فاروق، وبعد وصولي بسنة واحدة، بدأت الإضطرابات في القاهرة، ويمكننا أنّ نعتبر أنّها كانت من مقدمات الثورة، ولكن على الأرجح كانت أعمال الشغب هذه بقيادة مجموعة من المتعصبين، أكثر منهم قوميين، جميع محلاتنا تهمّشت في تلك الأحداث، وتم سرقتها وإحراق 2 من المحلات أيضًا، ولكننا حالفنا الحظ لأنّ المزارع والمصانع لم يُمسوا بضرر، وذلك بعض العمال الذين قاموا بالدفاع عنهم».
وعندّما سقطت الملكية، وصلَ ناصر إلى الحُكم، وتأميم شركة قناة السويس، كانت من أهم الأحداث في خمسينيات مصر، ودخول مصر في فُلك الإتحاد السوفيتي، كُل ذلك ترك أثر على النشاط الإقتصادي لعائلة «جروبي»، فترك، آكيلي بيانكي، مصر لعدة سنوات ليُصبح شيزاري جروبي المُمثل الوحيد للعائلة في مصر.
يقول، آكيلي جروبي: «القوة العاملة في جروبي وصلت إلى 1700 عامل، وإلى 300 عامل في مصانع منتجات الألبان، ليصل الإجمالي إلى 2000 عامل تقريبًا، هذا بخلاف العاملين في المزارع.
أما أحد العاملين في «جروبي» فيقول عن تاريخ زوّار المقهى: «جميع زبائنا كانوا من علية القوم، كُنا نقيم المآدب والحفلات للأشخاص المهمين، بدأ برئيس الجمهورية، والسكرتير العام لجامعة الدول العربية، وجميع السفارات في مصر، كان جروبي هو الوحيد القادر على ذلك». ويُضيف، آكيلي جروبي: «كُنا نعتبر أهم مؤسسة في مجال صناعة الأغذية في مصر».
اليوم، قد تغيّرت محلات «جروبي» الشهير، ولكن يبقى المكان شاهدًا على أمجاد الماضي، وعلى الأرجح تغيّرت المنتجات عمّا كانت عليه، ولكن الذكريات ماتزال باقية، توفى جاكومو جروبي في الـ 96 من عُمره في «روفينو»، حيثُ امضى بقية حياتُه بعد اعتزالُه عن العمل للمرة الثانية، ليترُك اسمه علامة بارزة تعيش بيننا.