تجيب أمانة الفتوى بدار الإفتاء المصرية:
يحتاج بعض الأبناء إلى الزواج، وقد يصل الأمر أحيانًا إلى أنهم يشعرون بالحرج الشديد من خشية الوقوع في الفاحشة، ولا سبيل إلا أن يقوموا بإعفاف أنفسهم بالزواج، ويطالبون آباءهم بمساعدتهم في ذلك.
وقد يَرِدُ على المكلف حالة تجعل الزواج في حقه واجبًا، ولذا قسم العلماء الزواج إلى الأحكام التكليفية الخمسة.
قال الحافظ ابن حجر: "وقد قسم العلماء الرجل في التزويج إلى أقسام: الأول التائق إليه القادر على مؤنه الخائف على نفسه، فهذا يندب له النكاح عند الجميع، وزاد الحنابلة في رواية أنه يجب، وبذلك قال أبو عوانة الإسفراييني من الشافعية وصرح به في صحيحه، ونقله المصيصي في شرح مختصر الجويني وجهًا، وهو قول داود وأتباعه ...الذين قالوا بوجوبه قيدوه بما إذا لم يندفع التوقان بالتسري، فإذا لم يندفع تعين التزويج، وقد صرَّح بذلك ابن حزم فقال: وفُرِضَ على كل قادرٍ على الوطء إن وجد ما يتزوج به أو يتسرى أن يفعل أحدهما، فإن عجز عن ذلك فليكثر من الصوم، وهو قول جماعة من السلف. وقال ابن دقيق العيد: قسم بعض الفقهاء النكاح إلى الأحكام الخمسة، وجعل الوجوب فيما إذا خاف العنت وقدر على النكاح وتعذر التسري، وكذا حكاه القرطبي عن بعض علمائهم وهو المازري؛ قال: فالوجوب في حق من لا يَنْكَفُّ عن الزنا إلا به كما تقدم".
والحكم فيمن خشي على نفسه الوقوع في الفاحشة إن لم يتزوج أن يتزوج إن استطاع، فإن لم يستطع وكان أصله موسرًا وجب على الأصل أن يُعِينَ فرعَه في الزواج في هذه الحالة.
والدليل على ذلك عموم قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا﴾.. [التحريم: 6]. ويمكن الاستدلال بقوله تعالى: ﴿وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ﴾.. [النور: 32]، وهذا أمر عامٌّ، وأول ما يتوجه إلى الأولياء ما داموا ميسوري الحال.
كما أن ما ورد النص بذكر وجوبه إنما هو للدلالة على ما يتضرر الابن بفقده، فيدخل غير المنصوص عليه بالقياس.
وقد ذهب كثير من أهل العلم إلى عكس ما ذكرنا، فقالوا بعدم وجوب الإعفاف على الأب، لكنهم أوجبوا ذلك للأب على الابن.
قال الشيخ زكريا الأنصاري: "(الطَّرَفُ الثَّالِثُ إعْفَافُ الْأَبِ الْحُرِّ وَلَوْ كَافِرًا لَا الْوَلَدِ وَاجِبٌ) عَلَى ابْنِهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ وُجُوهِ حَاجَاتِهِ الْمُهِمَّةِ، فَيَجِبُ عَلَى ابْنِهِ الْقَادِرِ عَلَيْهِ (كَنَفَقَتِهِ) وَلِئَلَّا يُعَرِّضَهُ لِلزِّنَا، وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِحُرْمَةِ الْأُبُوَّةِ، وَلَيْسَ مِنْ الْمُصَاحَبَةِ بِالْمَعْرُوفِ الْمَأْمُورِ بِهَا، وَلِأَنَّهُ إذَا احْتَمَلَ لِإِبْقَائِهِ –أي الوالد- فَوَاتَ نَفْسِ الِابْنِ -أي حياته- كَمَا فِي الْقَوَدِ فَفَوَاتُ مَالِهِ أَوْلَى، فَعُلِمَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ إعْفَافُ الْأُمِّ. قَالَ الْإِمَامُ: بَلْ لَا يُتَصَوَّرُ إذْ لَا مُؤْنَةَ عَلَيْهَا فِي النِّكَاحِ، وَلَا إعْفَافُ الْأَبِ غَيْرِ الْحُرِّ؛ لِأَنَّ نِكَاحَهُ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ لَا يَصِحُّ، وَبِإِذْنِهِ يَقْتَضِي تَعَلُّقَ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ بِكَسْبِهِ وَمَالِ تِجَارَتِهِ إنْ كَانَ لَهُ ذَلِكَ، وَبِذِمَّتِهِ إنْ لَمْ يَكُنْ، وَلَا إعْفَافُ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّ حُرْمَتَهُ دُونَ حُرْمَةِ الْأَبِ (فَلَوْ قَدَرَ الْأَبُ عَلَيْهَا) أَيْ عَلَى النَّفَقَةِ (دُونَ) مُؤْنَةِ (الْإِعْفَافِ لَزِمَ الْوَلَدَ) إعْفَافُهُ لِحَاجَتِهِ إلَيْهِ".
وفي الروضة للنووي: "علل الإمام عدم لزوم نفقة زوجة الابن للأب بأنه لا يلزم الأب إعفاف الابن".
وما ذكروه من تعليلات غيرُ قوي، وبعض أدلتهم في وجوب إعفاف الآباء هو أيضًا دليلٌ على وجوب إعفاف الأبناء، كقولهم: "لِأَنَّهُ مِنْ وُجُوهِ حَاجَاتِهِ الْمُهِمَّةِ... وَلِئَلَّا يُعَرِّضَهُ لِلزِّنَا". فهو كذلك للابن، بل هو أشد؛ لقوة الشهوة في الأبناء غالبًا أكثر منها في الآباء.
كما أن الضرر اللاحق من ترك الوطء أشدُّ من الضرر اللاحق بسبب النفقة أحيانًا، وقد صرَّح بهذا بعض أهل العلم في مسألة غياب السيد عن أم ولده وتضررها بذلك.
قال المرداوي: "فائدة: لو غاب عن أم ولده، واحتاجت إلى النفقة: زُوِّجَتْ على الصحيح من المذهب، قال في الفروع: زُوِّجَتْ في الأصح، وقيل: لا تُزَوَّج. ولو احتاجت إلى الوطء: لم تزوج. قدمه في الفروع. وقال: ويتوجه الجواز عند من جعله كنفقة. قلت: وهذا عين الصواب، والضرر اللاحق بذلك أعظمُ من الضرر اللاحق بسبب النفقة. واختاره ابن رجب في كتاب له سماه: القول الصواب في تزويج أمهات أولاد الغياب، ذكر فيه أحكام زواجها وزواج الإماء وامرأة المفقود، وأطال في ذلك وأجاد، واستدل لصحة نكاحها بكلام الأصحاب ونصوص الإمام أحمد رحمه الله".
فالراجح وجوب الإنفاق على الابن للزواج إن احتاج إليه وخشي على نفسه الوقوع في الفاحشة، ما دام أصلُه من أبٍ أو جدٍّ أو من تلزمه نفقتُه موسرًا.
والله تعالى أعلم.