سمير حبشـــــــى
فى مثل هذه الأيام من العام الماضى ، تقدست مياه البحر بدماء ذكية لِيُسَبٍح كل الأحياء المائية فيه باسم خالق الكون .. ورفضت رمال الشاطئ شُرب هذه الدماء حتى يسمع القاتل لأخيه الإنسان صوت الله ماذا فعلت ؟ صوت دم أخيك صارخ إليَّ من الأرض" [ 8-10]. فللدم صوت عال يصل من الأرض إلى السماء .. ففى ليبيا وعلى شاطئ البحر أستشهد أبناء الكنيسة القبطية بكل فرح ، وهم يرددون كلمة واحدة " يا يسوع " .. ابناؤنا الشهداء لا يحتاجون لذكر أسماء ، أسماؤهم لا تشبه الأسماء ، أسماء أصبحت محفورة على خرائط الزمن .. حملت أرواحهم الملائكة دون أوراق ، أو توصيات إلى السماء ، بعيدا عن مدائن البكاء والخبز المبلل بالخوف والدموع ، مسافرون خارج الزمان والمكان ، فى الإقدام و الفداء علمونا درساً بليغا ، لقًنونا عِلما جديدا فى الشهادة والفداء ، أدهشونا وأذهلونا بالعزيمة والولاء، بالصدق والإخلاص بالشجاعة والبلاء ، ومع قداسة أجمل نداء ، المصنوع من ثمين الدر ومن الوفاء ، " يا يسوع " هزموا سيف البغاء.
يا إخوتى : أريد أن نلتفت جميعنا معاً وأنا معكم ، لننظر معاً بعمق إلى هذه السيَر المقدسة ، ونبصر كيف تقدموا للموت بمزامير الفرح ، والنعمة على وجوههم مشرقة ، وخطواتهم خفيفة ثابتة ، بلا تراجع ولا تردد أو حتى طلب علامة من الله عاملين بكلمته : طوبى للذين آمنوا ولم يروا .. ولا عجب ولا سر وراء ثباتهم ، غير محبتهم للمسيح حباً قوياً أقوى من الموت .. كان إيمانهم كموج البحر الجارف لا يعكر ماءه ما يواجههم من عذابات ، والذى قد ذبحوا على شاطئه ، لم يزعزع إيمانهم تهديدات ، ولا سلاح ولا حتى الموت .. فلم تضطرب نفوسهم أمام نصل السكين الحامى والذى يقطر دما ، أو شتى الإهانات ، إنما كالصخرة القوية الراسخة ساروا أمام ذابحيهم ، ولم تُرهبهم كل أنواع البربرية . هذا وإن كان ذلك ليس بالأمر الهين بالنسبة للآخرين ، ولكنه السعادة بلقاء يسوع الفادى والمخلٍص ، وهنا يهون كل شئ ، لقد كان بالنسبة لهم الإمتحان ، والبوتقة التى ينصهر فيها الرجال ، فيظهر إيمانهم ، والصليب المختوم على جباههم ، هؤلاء هم أبناء كنيستنا أم الشهداء ، الذين ساروا فى درب أجدادهم ؟ ، نحن نذكرهم هذه الأيام ، ليستحق أجيالنا القادمة أن تحمل اسمهم ، ويكونون إمتدادهم ، لقد كانوا شهادة إيمان حية ، جذبت أنظار الذين فى الحظائر الأخرى إلى من مات على الصليب ؟ !! .. إن الإستشهاد فى المسيحية هو قمة عمق الإيمان بالمسيح ، وبرهان على صدق الديانة المسيحية ، ويختلف مفهومه بقدر قرب الإنسان من الله .. والشهيد فى المسيحية يضحى بروحه كحب خالص ، وشهادة حق بأن المسيح هو الله المخلٍص الذى صُلب من أجل البشر .. وفى صفحات تاريخ كنيستنا القبطية شموع مضيئة وأسماء من نور .. هم أجدادنا الأقباط الذين ذاقوا كل أنواع العذابات والأهوال ، وكلما زادت العذابات بهم إشتد إيمانهم وتعلقهم بمسيحهم .. كان يمكن أن تصبح المسيحية شيئا آخر غير ما نراه ، لولا أولئك الذين ثبتوا حتى الموت ، وقدموا حياتهم ثمنا لحبهم للمسيح ، ودماءهم لتروى سنابل الإيمان ، لتطرح شعوب وقبائل فى جميع بقاع الأرض تشهد للمسيح .
تذكروا يا إخوتى أن المسيحية هى الديانة الوحيدة التى لم يُبشَر فيها الشهداء بأى حقوق ، أو عطايا ، أو هبات ستُعطى لهم لقبولهم الاستشهاد ، فالهبة الوحيدة التى سينالها الشهيد هى بركة الشهادة نفسها ، فقد وهب المسيح لأبنائه لا أن يؤمنوا به فقط ، بل أيضا أن يتألموا من أجله .. لم يَعِد المسيح أتباعه بجنات تجرى من تحتها الأنهار ، ولا ببحار الخمر والعسل والماء الغير آسن ، ولا بحور عين لم يمسسهن بشر ، الأمر الذى يجعل المسلم يفجر نفسه ويصبح كرة من الموت ، أملا فى الحوريات التى تنتظره فى الجنة ، كما تمليه عليه شريعة هى شريعة الغاب ، التى سكنت قلوبهم عبر الأحقاب والعصور ، فنما بداخلهم هذا الشعور الوحشي ، والذى وجد ملاذه في جوامعهم ، التي تحولت إلى أماكن لتفريخ الإرهاب ، حتى أصبح المسلم إنسانا مصلوبا فوق حائط الكراهية ، و كُرَة من نار تسير نحو الهاوية .. فكل ما يحرر الإنسان يحولونه إلى قيود ، وكل ما يوحده يحولونه إلى سيوف .. ولكن هل هذا كله يجعل الخوف يملأ مكان المسيح فى قلوبنا ؟!! ، ويستعمرنا الفزع والرضى بالظلم من كل جانب بحجة أننا نبغى السلام ، فالسلام لا يحققه الضعف أو الإستكانة ، لكنه يأتى على جناحين من قوة الحق . فلا تصوموا يا إخوتى ولا تصلوا الا بعد ان تطالبوا بالعدل وتدافعوا عن الحق ، وبعدها أذهبوا وقدموا ما عندكم لله .
إن هؤلاء الشهداء قد أعطونا درسا فى عدم الخوف ، وفتحوا أمامنا صفحات كتاب الله الذى وضع الخائفين فى مقدمة الذين سيلقون فى بحيرة النار والكبريت ، " واما الخائفون وغير المؤمنين والرجسون والقاتلون والزناة والسحرة وعبدة الاوثان وجميع الكذبة فنصيبهم في البحيرة المتقدة بنار وكبريت الذي هو الموت الثاني رؤيا 21 : 8 " وأعطونا مثالا واضحا عن الشجاعة ، التى أعتبرها أنا لسان حال الإيمان الحقيقى الصادق للمسيحى ، الذى جعل قلبه مسكنا للرب .. هنا تكون الشجاعة هى النور الساطع من مصباح الإيمان المضئ فى قلب أبناء الله .. لأنه إذا كان عند الإنسان كل مقومات الإنسانية ولم تكن عنده الشجاعة فإنّما هو شعار فارغ مرفوع كلافتة فوق طريق مسدود ، وإن كنت أنا ممن يحاولون إرساء دعائم السلام بين البشر ، ولم أملك الشجاعة فى يمينى ، فإنّما أنا إنسان غارق في الاستسلام ، وأهادن ربما حتى الشيطان ، لأنّني سوف لا أجرؤ على المواجهة، فما نفع السِلْم إن لم تحمه الشجاعة ، وإذا فَقدتُ الشجاعة ، وسقطت منى فى مشوار الحياة وخلا منها قلبى ، فأنا فى الحقيقة لست بمسيحي أو مسيحيا فقط فى شهادة الميلاد لأن كلمات الله تقول " تعرفون الحق، والحق يحرركم». — يوحنا 8: 32.