د. مينا ملاك عازر
رصدت لسيادتك صديقي القارئ، كيف انتقل شرطي العالم من السلك الجامعي والصحفي الدبلوماسي للسلك المهني السياسي الدبلوماسي، وكيف أنهى عمله بالأمم المتحدة وهو راضي عن نفسه وغير راضية عنه الولايات المتحدة الأمريكية التي أصرت على رحيله، وهو الذي كان من المفترض أن يجدد له بحسب الأعراف هناك بأن يحصل ممثل القارة السمراء على مدتين، فقررت أن يأتي بدلاً منه كوفي عنان الذي استلم مهام العمل بدلاً من المصري النبيل.
أما الدكتور بطرس غالي فأكثر ما أفلح فيه أثناء مدة تواجده بمنصبه في وزارة الخارجية، أن قوى علاقات مصر مع أفريقيا، وأبقى عليها بألا تموت، وكثيراً ما نبه إلى ضرورة الإبقاء على تلك العلاقات وتدعيمها مع الدول الافريقيه الذين ندمنا كثيراً بتركنا لعلاقاتنا معهم تنهار بدخول دول أخرى لا تريد لنا الخير في علاقاتنا مع الدول الأفريقية هذه ، فتأثرنا بالسلب للأسف.
ويروي الدكتور بطرس غالي كيف أستطاع أن يعبر بالسادات في أنواء معارضة له في أفريقيا بعد توقيعه اتفاقية السلام بل ومن قبلها بعد زيارته للقدس، حيث احتشدت ضده دول أفريقية بعد أن حاولت دول عربية شقيقة أن تضيق الخناق على مصر. ويروي غالي، كيف استطاع أن يحيد تلك الدول بل يحصل منهم على تأييد للموقف المصري، أفلح أن يجعلهم يستقبلوا السادات بترحيب شديد بعد أن أقنعه بصعوبة شديدة للحضور لمؤتمر القمة الأفريقي بعد أن أنهى على مخاوفه من مواجهة رأي عام أفريقي معارض.
القارئ لكتابات الراحل العظيم يستمتع برشاقة الأسلوب، وعمق المعلومة، وخبرة هائلة، وحكمة بديعة، وحنكة نادرة في التعامل مع زعماء متشددين منهم المجانين بالعظمة، يروي لك بدقة تجعلك تعيش الحدث وتتعايش وتتفاعل معه، تجعلك لا تمنع نفسك من الاستمرار معه في الرحلة التي يبدأها ولا تريده أن ينهيها، يروي لك ملابساتها برشاقة وعذوبة وإثارة ومتعة، يروي لك كيف يتعامل مع زعماء أفارقة تعيش بلادهم في فقر مضجع ويعيشون هم في ترف مفزع؟ يروي لك كيف ينتقل لقصورهم بطائرات مروحية ثم زوارق بخارية ويروي لك آراءهم في بعضهم، وكيف تحدث الانقلابات؟ وأن الكل زائل.
ومسألة أن الكل زائل، كان بادي أنه مقتنع بها حتى في علاقاته الشخصية مع مناصبه، فحينما أشيع أن السادات سيقيله لم يكن متضايق، ويرصد لك ببراعة كيف كان يستشعر هذا من معاملة سيئة من السيدة جيهان السادات تبين له أنها لم تكن مقصودة، وبدليل أن أمر إقالته لم يحدث، وكيف أن السادات بحكمة بالغة طمأنه على بقائه حينما دعاه لينضم للجلوس معه بعد أن كان مبعد لوقت ما ظنه هو والمحيطين به تمهيد للإبعاد، ما ربط ذلك مع مواقف السيدة جيهان معه، تأكد يقينه برحيله، فعاملوه بشكل سيئ، وابتعد عنه البعض، وكيف كان متفهم هو لمواقفهم؟ وكيف تناسى مواقفهم هذه فور الإبقاء عليه، لأنه نبيل ورائع بحق. اختار الموت رجل رائع ليعرفنا أنه مهما بلغت نجاحاتنا لن تبق لنا إلا سيرة حسنة، فلنعمل لها بكل جهدنا لكي نجد من يقول عنا ما نقوله على هذا النبيل، الله يرحمه كان محترم.