الأقباط متحدون - من جعبة ذاكرتي الفلسطينية– 2:أناوالشهيد أبوجهاد
أخر تحديث ١٩:٠٠ | الثلاثاء ٨ مارس ٢٠١٦ | ٢٩ أمشير ١٧٣٢ ش | العدد ٣٨٦١ السنة التاسعة
إغلاق تصغير

شريط الأخبار

من جعبة ذاكرتي الفلسطينية– 2:أناوالشهيد "أبوجهاد"

بقلم: ميشيل الحاج
   
هذه حلقة أخرى من ذكرياتي الفلسطينية

بعد اقامتي في القاهرة لمدة قاربت الأربعة شهور، غطيت خلالها حرب الاستنزاف التي شرع بها المصريون باطلاق المدفعية والصواريخ عبر قناة السويس الفاصلة بينهم وبين العدو الاسرائيلي الذي كان يرد عليهم بالمثل... عدت الى عمان لأغطي تواجد رجال المقاومة الفلسطينية الذي بات الآن واضحا وملموسا في أنحاء العاصمة عمان وفي مواقع أخرى في الأردن.

وبعد فترة من تواجدي في عمان، وأثناء قيامي بتصوير عملية تدريب بعض الأشبال الفلسطينيين في أحد المواقع بجبل الحسين، جاء أبو جهاد لزيارة الموقع.  وعندما سلمت عليه (وكان قد علم بلقائي مع عرفات وبنشاطي في تغطية التواجد الفلسطيني الساعي لمقاومة الاحتلال)، قال لي "هذه صدفة أفضل من ميعاد. أنا كنت أبحث عن وسيلة للاتصال بك".  فسألته "خير ان شاء الله"، فقال لي "ألا ترغب في تغطية شيء أكثر أهمية من مجرد تدريب أشبال".  فقلت "طبعا أريد ذلك".  فألمح لي بالابتعاد عن المجموعة من المدربين الذين أحاطوا بنا.

وعندما انفرد بي سألني "هل ترغب بتغطية عملية فدائية عبر الحدود؟". فقلت طبعا .. متى وأين" فرد قائلا "انها عملية عبر الجولان ان كنت ترغب في المخاطرة".   قلت "طبعا..أرغب" . فرد اذن "كن متواجدا في موقع قيادتي...غدا  الساعة الرابعة مساء".

وفي اليوم التالي تواجدت في الموقع المطلوب حيث كانت هناك ثلاث جيبات عسكرية وفيها بعض المسلحين تنتظر وصولي وقد أبلغوا بأنني سأرافقهم في تلك المهمة الموكل لهم تنفيذها. وكنت قد حملت معي جواز سفري لاعتقادي بأننا سنمر على الحدود الأردنية ثم الحدود السورية، ولا بد من الحاجة لابراز جواز السفر عندئذ. لكن الجيبات انطلقت بنا، ولم تتوقف الا لدقائق قليلة على الحدود الأردنية ثم على الحدود السورية. فحرية التنقل للمقاتلين الفلسطينيين كانت متوفرة، ولم يكونوا بحاجة الى جواز سفر عندئذ. ومع المساء بلغنا قرية سورية تقع في سفح منطقة الجولان.

كانت قرية صغيرة (لا أذكر اسمها)، وطلب منا الاخوة في القرية أن نمضي الليلة في مدرسة القرية. وفي الصباح، سألني قائد المجموعة ان كنت أرغب في مرافقة فريق استطلاع سيذهب الى أقرب موقع من تواجد الاسرائيليين لاستطلاع الوضع الاسرائيلي هناك تمهيدا لتنفيذ العملية  الفدائية المقررة. وأجبته بالايجاب. وهكذا انطلق فريق الاستطلاع المكون من مسلحين وقائد المجموعة وأنا.

وسرنا على أقدامنا مسافة غير قليلة الى أن بلغنا منطقة مرتفعة، فطلب منا قائد المجموعة عندئذ أن نسبح على بطوننا وألا نحدث صوتا أو ضجة ما كي لا نلفت نظر الاسرائيايين الذين لم يعودوا بعيدين جدا عنا,.  فزحفنا على بطوننا الى أن بلغنا رأس المرتفع المطل على الموقع الاسرائيلي. وكان أمامنا الآن منخفض في مرمى البصر ومرمى البندقيةـ ويقف هناك جنديان اسرائيليان ومعهما مجندة اسرائيلية. كان الثلاثة يتضاحكون بصوت مرتفع. وسأل أحد المقاتلين قائد المجموعة: "هل أقتلهم.  انهم في مرمى رشاشي"، لكن قائد المجموعة أمره بأن يلتزم الصمت، لأننا الآن في مهمة استطلاعية وليست مهمة قتالية. "هذه ليلة الغد ان شاء الله" عندما نقتحم الموقع".

وعندما استكمل قائد المجموعة عملية الاستطلاع الممهدة للعملية الفدائية، أمر بأن نعود أدراجنا دون احداث أي جلبة قد تلفت نظر الاسرائيليين الى وجودنا. ففعلنا كما أمرنا.  ولكن عندما بلغنا القرية السورية، وجدنا ضابطا من القوات السورية في انتظارنا. وهنا أبلغ الضابط السوري قائد المجموعة، برغبة قيادته في تأجيل تنفيذ تلك العملية، لأنها سوف تستدرج هجوما اسرائيليا مضادا، ولا توجد في الوقت الحالي قوات سورية كافية في المنطقة لمجابهته. واستجاب قائدالمجموعة لطلب الضابط ، وأبلغنا بأن موعد التنفيذ قد أجل لفترة لاحقة. وهكذا عدنا الى عمان عابرين الحدود السورية ثم الأردنية بدون توقف الا لفترة قصيرة جدا هنا وهناك.

والتقيت بعد ذلك مرارا مع أبو جهاد في العديد من المناسبات التي كان فيها نشاط سياسي للفلسطينيين، اضافة الى مناسبات الاحتفالات بمناسبة وطنية، أو تخريج دفعة من المقاتلين أو الأشبال.  ولكن التجربة الحقيقية مع المرحوم "أبو جهاد" كانت في صيف عام 1971.  وكنت عندئذ قد تعاقدت بشكل نهائي للعمل متفرغا مع شبكة سي بي أس نيوز الأميركية، وطلب مني الذهاب الى لبنان للاقامة فيها لمدة طويلة من الزمن، حيث أن النشاط الفلسطيني كان قد انتقل عندئذ من الأردن الى لبنان بعد معارك أيلول عام 1970 في الأردن، وما تبعها من مغادرة المقاتلين الفلسطينيين للمدن الأردنية والتجمع في أحراش جرش، ثم انتقالهم الى لبنان في هجرتهم الأولى. أما الهجرة الثانية فكانت في عام 1982 عندما اضطروا نتيجة اتفاق عقده  الوسيط الدولي "فيليب حبيب" الى الهجرة مرة أخرى الى تونس لابعادهم تماما عن الحدود الاسرائيلية.

وكنت عندئذ ما زلت أعمل كمصور. وكان مساعدي شاب أردني اسمه وديع خوري. وكان يرأس الفريق في بيروت مراسل أميركي اسمه "بوب أليسون".

ففي بعد ظهر أحد الأيام من صيف ذاك العام، ورد الى مكتب سي بي أس نيوز في بيروت، تلكس يفيد بأن معلومات قد توفرت لدى مدير مكتب السي بي أس في تل أبيب، مفادها أن القوات الاسرائيلية ستهاجم الفدائيين في جنوب لبنان. وطلب منا رئيس التحرير المتواجد في نيويورك أننتواجد في الجنوب مع الفجر أوقبله. ورجحنا بأن معلومات مدير مكتب تل أبيب قد تكون دقيقة بسبب موقعه كرئيس لمجموعة المراسلين الأجانب العاملين في اسرائيل، مما وفر له الفرصة للاتصال بالمسؤولين الاسرائيليين في أعلى المستويات. كل ما في الأمر أن الذهاب الى الجنوب لم يكن أمرا ميسرا أو ممكنا كنزهة عادية  يرغب أي انسان في القيام بها.

ذلك أن اتفاقية القاهرة الموقعة بين الفلسطينيين واللبنانيين، كانت تحدد أصول وشروط تواجد الفلسطينيين أو انتقالهم الى الجنوب اللبناني المحاذي للحدود مع اسرائيل. وكنت أنا وزميلي وديع خوري من أصل فلسطيني، وتذكر جوازات سفرنا أننا مواليد مدينة يافا الفلسطينية. فنقطة المراقبة العسكرية في الموقع الذي يتم الوصول منه الى الجنوب اللبناني، كان سيكشف هويتنا ويمنعنا من مواصلة السفر والوصول الى "كوكبا" الضيعة التي تلي وتشكل بداية منطقة الجنوب اللبناني المحاذي لاسرائيل. وهكذا لم تكن أمامنا فرصة للوصول الى المناطق المبتغاة في الجنوب اللبناني  وخصوصا الى منطقة العرقوب التي يتواجد فيها كثير من المقاتلين الفلسطينيين، وبسبب تواجدهم هناك كانت اسرائيل تسميها أرض فتح. وهكذا كان لا بد من التفكير والتخطيط قبل الانتقال الى الجنوب اللبناني.؟

وبعد مرحلة من التفكير والبحث عن الحلول، تذكرت بأن اتفاقية القاهرة تأذن للمقاتلين الفلسطينيين بالوصول الى الجنوب اذا كانوا مزودين بأمر حركة عسكري صادر عن قيادتهم في بيروت، يخولهم، أو يأمرهم بالانتقال الى الجنوب. وكان من يصدر أوامر كهذه هو أبو جهاد. وهكذا ذهبنا الى الأسواق وابتعنا لثلاثتنا كوفيات فلسطينية ذات اللون الرمادي والأبيض والتي اعتاد الناس أن يشاهدوا المقاتلين الفلسطينيين يلفون بها أعناقهم. وبعد ذلك توجهنا الى مكتب أبو جهاد في حي الفكهاني في بيروت.

وشرحت لأبو جهاد رغبتنا في الذهاب الى الجنوب في عمل اعلامي، مبينا له عجزنا عن دخول منطقة الجنوب بدون استصدار أمر منه لكل منا، يصفنا كمقاتلين مكلفين بمهمة عسكرية. وكان أبو جهاد يثق بي خصوصا وأنني كنت قد رافقت أكثر من مرة مجموعات ذهبت الى الأغوار الأردنية لتغطية عمليات كانوا سينفذونها ضد العدو الاسرائيلي. فقال  حسنا "سأمنحكم أوامر عسكرية للذهاب الى الجنوب". وهنا قلت له سميني في الأمر "أبو نمر.

وقال وديع خوري: "ليكن اسمي أبو كفاح. ولكن ما الاسم الذي سنطلقه على زميلنا الأميركي؟  واقترح زميلي أن نسميه "أبو رعب". وكان لنا ذلك، وهنا بدأ الزميل الأميركي بمغادرة المكتب، وتبعه وديع خوري. وعندما هممت أنا أيضا بمغادرة المكتب سعيدا بالانجاز الذي حققناه، أشار لي أبو جهاد ما أوحى لي بأنه يريد الانفراد بي لبعض الوقت. فمكثت في مكتبه، وهنا سألني "لكن ما هو الموضوع"... كان يستفسر مني أن أقول له سبب توجهنا الى الجنوب رغم  الهدوء السائد حاليا في الجنوب منذ بعض الوقت.  فقلت له بأنني أخشى أن أبلغك بمعلومة لدي قد تكون صحيحة وقد لا تكون. فقال أعلمني ما هي واترك لي تقدير الأمر. فشرحت له الأسباب التي تستدعينا الذهاب الى هناك، والتواجد مع الفجر في تلك المنطقة، مبينا له أن المعلومات صادرة من مدير مكتب السي بي أس في اسرائيل.  وهنا ايتسم أبو جهاد ابتسامة غامضة، ثم قال "على بركة الله"  اذهبوا في مهمتكم  والله معكم.

ومع الفجر كنا قد بلغنا نقطة التفتيش العسكرية اللبنانية التي تسبق ضيعة كوكبا. وحرصنا قبل ذلك على التأكيد بأن الكوفيات قد لفت حول أعناقنا لنبدو كمقاتلين فلسطينيين حقيقيين. كما حرصنا على أن نصر على زميلنا الأميركي ألا يكتفي بلف الكوفية حول عنقه، بل أن يغطي بها جزءا من وجهه خشية أن يكتشف الجنود اللبنانيون في نقطة التفتيش بأنه أميركي نظرا لبشرته الناصعة البياض والمميزة لكونه أجنبيا وليس عربيا.

وقدمت للجندي اللبناني  التصاريح – الأوامر العسكرية الصادرة لنا من القيادة بالذهاب الى الجنوب في مهمة ما. وتأمل فيها الجندي اللبناني واحدة تلو الأخرى ثم قال  "أوكيه... تفضلوا".  فانطلق سائق سيارة الأجرة اللبناني الذي ائستأجرناه من أمام فندق فينيسيا حيث كان ثلاثتنا نقيم... انطلق بالسيارة لندخل الى أعماق الجنوب اللبناني. وبعد بضعة كيلومترات، لاحظنا التواجد الاسرائيلي الكثيف على تلة مقابلة، فاستوقناه، وحملت أنا الكاميرا وبدأت في تصوير تلك القوات الغازية.  ولكن بعد دقائق قليلة ربت "بوب" على كتفي قائلا: " الأفضل أن نبدل موقعنا.

 أرجح بأن الاسرائيليين قد لاحظوا الآن تواجدنا  بمناظيرهم وربما قدروا بأن الكاميرا الكبيرة حجما على كتفك، هي مدفع من نوع ما وأنت تهم بقصفهم".  فوافقته، ووضعت الكاميرا جانبا وتوجهنا جميعا الى السيارة غير البعيدة عنا. وبعد أن بتنا جميعا داخل السيارة وهم السائق بتشسغيلها للانطلاق بها بعيدا عن ذاك الموقع، حتى حدث التطور غير المتوقع والذي جعلنا جميعا نواجه يوما عصيبا سجل في تاريخ حياتنا بحبر غير قابل للالغاء أو النسيان.

فقد لاحظت فجأة أن طائرة اسرائيلية كانت تتجه نحونا. ولاحظت أيضا بأنها كانت تخفض من ارتفاعها تدريجيا ومقدمتها تتجه مباشرة نحو سيارتنا، فصرخت في الجميع "سوف بقصفوننا". وقفزنا اربعتنا خارج السيارة مع الاصرار على حمل معداتنا معنا. كنت أنا في المقعد الخلفي وكذلك بوب أليسون، فقفزت نحو تلة الى جانبي في الوقت الذي قفز فيه "أليسون الى حقل محاذ للجهة التي تواجد فيها. وفعل مثلي زميلي وديع خوري الذي كان يجلس في المقعد الأمامي .. في اتجاه التلة التي توجهت اليها لاشعوريا، كما قفز السائق في الاتجاه الذيذهب اليه بوب اليسون.  وبالفعل، وكما توقعت، القت الطائرة التي اقتربت كثيرا من السيارة، بقذيفة سقطت أمام مقدمة السيارة فتسببت ببعض العطب لها، لكنها لم تدمرها. واحتميت أنا ببعض الصخور في تلك التلة خوفا من عودة الطيارة الى الاغارة علينا. وفعل مثلي وديع خوري الذي تقوقع غير بعيد عني.

وكما توقعت، فقد قامت الطائرة بدورة ما في الفضاء ثم عادت لتقصفنا أنا ووديع، وتلاحق الاثنين الآخرين بطلقات متلاحقة من الرصاص من مدفع رشاش زودت به الطائرة (كما روى لي بوب أليسون فيما بعد). وهنا رفع وديع خوري رأسه وأخذ يلوح للطائرة في محاولة لأن يقول للطيار بأننا لسنا مقاتلين بل اعلاميين. وهنا أسقطت الطائرة قذيفة أخرى في اتجاهنا أصابت بعض الصخور ولم تصبنا مباشرة، لكن شظايا الصخور التي تلقت القذيفة، أصابت زميلي الذي وقف ملوحا بيديه للطيار كي يتوقف عن قصفنا، فتلطخ وجهه بالدماء نتيجة الشظية الصخرية التي أصابت وجهه. وهنا كان من الطبيعي أن يناله الذعر مما حدث فأخذيصيح "لقد أصبت". ودفعته بقوة طالبا أن يخفض رأسه وأن يبقى متقوقعا الى جانبيواعدا اياه بأن ننقله بأسرع وقت الى أحد المستشفيات.

ولكن انتظارنا طال. فلم يكن بوسعنا أن نغادر موقعنا. ذلك أن المدفعية الاسرائيلية بدأت تقصف التلة التي احتمينا بها بقذيفة تلو الأخرى على أمل اصطيادنا. ذلك أنه لم يكن أمامهم هدفنا آخر يتسلون به، بعد أن خاب أملهم بالعثور على المقاتلين الفلسطينيين في المواقع التي كانت طائراتهم ووسائل استطلاعهم قد حددتها. وتأكد لي تدريجيا أن أبو جهاد قد أنذر رجاله بأن يبدلوا مواقعهم تجنبا لهجوم محتمل.  وبالتالي لم يعد أمام الاسرائيليين هدفا يلاحقونه الا ثلاثتنا، لكوننا بدونا لهم بمنظارهم، مقاتلين فلسطينيين كما تدل الكوفيات التي التفحنا بها. وهكذا بتنا مضطرين لأن ننتظر وننتظر الفرج. فالانتقال من الموقع الذي لجأنا اليه لاعتقادنا بأن السيارة التي جئنا بها قد تعطلت نتيجة القذيفة التي استهدفتها استهدافا مباشرا.

وانضم الينا بعد قليل زميلنا الأميركي، وأخذنا نناقش وسيلة الخروج من المأزق الذينحن فيه خصوصا وأن جريحنا كان ينزف ويصر على ضرورة مغادرتنا للجنوب والعودة الى بيروت أو الى أقرب مستشفى في المنطقة.

 وهنا لاحظنا أن بيك أب صغير عسكري لبناني كان قادما من البعيد في مرحلة توقف فيها القصف.  ووضعنا وديع المتخوف من نزيفه أمام الأمر الواقع عندما ركض باتجاه السيارة الجيب يستوقفها طالبا مساعدته في الوصول الى مستشفى قريب. ولحقنا به محاولين اقناعه بالانتظار. لكن السائق العسكري والذي كانت مهمته (كما قال) توزيع الطعام على الجنود اللبنانيين المتواجدبن في مواقع هنا وهناك..وافق متردداعلى أن يصطحبنا الى أقرب ضيعة وهي كوكبا.

وركبنا في ظهر البيك أب، حيث أكداس الطعام، مصرين على اصطحاب معداتنا معنا.   ولكن ما أن وصلنا الى الضيعة (كوكبا) مع بداية المغيب، حتى شرع الاسرائيليون الذين كانوا يتابعوننا بمناظيرهم، باطلاق مدفعيتهم في اتجاهنا. ولكننا تمكنا من مغادرة  البيك آب العسكري واللجوء الى أقرب منزل الينا. وكانت فيه عجوز لبنانية جلست قبالتنا تضرب بيدها على ساقها مع كل قذيفة تطلق على القرية بهدف اصطيادنا.  وكانت العجوز تتوسل الينا بأن نتركها في حالها ونغادر منزلها. كانت تقول أنهم لا يريدون القرية وسكانها.  انهم يريدونكم أنتم.

وفي لحظة ما، شاهدنا من شباك المنزل قذيفة تصيب أحد المنازل وتشعل النار فيه. وهنا انطلقت أصوات طفلة كانت كما يبدو في المنزل المصاب تبكي وتشتغيث. وكان الألم يعصر قلوبنا لماتسببنا به لتلك الطفلة من خوف وعناء. لكن لم يكن بوسعنا أن نفعل شيئا. فانتظرنا في موقعنا الى أن خيم الظلام علينا، فقررنا السير على الأقدام نحو مدينة لبنانية تقع على تلة غير بعيدة كثيرا عن كوكبا، وأعتقد أن اسمها (لآ اذكره جيدا) كان "دير ميناس".

وأثناء سيرنا، وكنت قد توقعت أن نصادف كمائن في طريقنا الى تلك المدينة. اذ كنا في منطقة عمليات عسكرية، وكان من الطبيعي أن نتوقع مصادفة كمائن من جهة ما... ربما من الاسرائيليين وربما من الفلسطينيين. وهنا قلت لزميلي بأننا اذا صادفنا كمين في طريقنا، وكان المتحدث معنا يتكلم باللغة العربية، أتركوه لي لأحاوره. أما اذا تحدث بلغة انجليزية أو أية لغة أخرى، فانه على بوب أليسون أن يحاوره.  وبطبيعة الحال كنت في داخلي متخوفا بأن يكون قائد الكمين اسرائيليا ولكن يتحدث اللغة العربية.  ولكن لم يكن بوسعنا أن نفعل شيئا في حالة كهذه.

وسرنا بعض الوقت...وفي لحظة ما أحسستبشيء صلب يلامس ظهري، فقدرت فورا بأننا قد وقعنا في كمين. وحاولت الالتفات الى الوراء، لكن صوتا أجشا قال لي باللغة العربية "لا تلتفت الى الخلف وسر في طريقك". ولم أعلم عندئذ ان كان فلسطينيا الذي يصدر الأمر الي أم اسرائيليا. ولكني قررت المغامرة واعتباره فلسطينيا. فقلت له "يا أخي نحن عرب ولسنا اسرائيليين". فالكمين الذي نصب ان كان فلسطينيا،  كما فكرت بسرعة، لا بد كان يتوقع أنه بصدد دورية اسرائيلية. وبعد لحظة صمت لم أتلق ردا على كلامي خلالها، قلت له لدي أوراق تثبت بأننا هنا بمعرفة أبو جهاد. دعني أريك أوراقنا. فقال "حسنا  دعني اراها" ... فأخرجت من جيبي ورقة الأمر االصادر عن ابو جهاد محاولا الالتفات الى الخلف لأسلمها له.  فدفع بفوهة الرشاش الى ظهري قائلا  "لا تلتفت الى الخلف... فقط أعطني الورقة  دون أن تلتفت". وفعلت ذلك، وعندما اطلع على ضوء القمر الذي كان لحسن الحظ قمر 14، صاح بالآخرين أن الشباب أوكيه. معهم أمر من أبو جهاد.

واصطحبنا فريق الكمين المكون من أربعة الى خمسة أشخاص (لا أذكر تماما) الى المدينة القريبة حيث أجريت اسعافات أولية لوديع خوري، ثم زودنا بسيارة اصطحبتنا الى بيروت بعد يوم طويل من الرعب اقتربنا فيه كثيرا من لحظات الموت الآتي من القذائف الاسرائيلية.  ولدى وصولنا الى بيروت،كانت وجهتنا الفورية الى مستشفى الجامعة الأميركية حيث أجريت لوديع الاسعافات الكاملة والتي شملت عملية تجميلية لوجهه كي لا يترك الجرح أثارا أو ندوبا على وجهه. 

وفي اليوم التالي جاءنا السائق اللبناني الذي كنا قد فقدناه خلال مرحلة الهلع تلك، وأبلغنا بأنه قد استطاع اصلاح ما أصاب السيارة من ضرر وعاد بها الى بيروت، فطلبنا منه العودة فورا الى كوكبا والاستفسار عن مصير الفتاة الصغيرة التي روعتها القذيفة والحريق الذي تسببت به تلك القذيفة. فقد كان صوتها يصرخ طوال الليل في رأسي ورأس أليسون. وفعل ذلك متوجها فورا عائدا الى كوكبا. وفي المساء عاد الينا ليبلغنا بأن الفتاة سليمة ولم تصب بأذى، اذ أنقذها أحد الجيران من الحريق الذي لم يلتهم الا جزءا صغيرا من المنزل المصاب.

وعندما علمت ادارة سي بي أس في نيويورك بما حدث لنا، أرسل مديرها العانم برقية احتجاج شديدة اللهجة الى وزير الدفاع الاسرائيلي، تلومه بشدة على اقدام قواته على استهداف طاقم اعلامي غير مقاتل تابع لشبكة أميركية.

ورد وزير الدفاع ببرقية يتساءل فيها: ما الذي أوجدهم في ميدان يواجه عمليات عسكرية وهم متلحفون بكوفيات قفلسطينية؟

كانت بحق تجربة مريرة، ولكنها كانت بالنسبة لي تجربة تثقيفية. فقد علمتني أنه ليس من السهل قتل الانسان أو اصابته. فالطائرة الاسرائيلية نفذت غارتين أو ثلاث غارات علينا في محاولة لقتلنا، ولم تفلح في قتل أي منا.

ولولا اضطراب زميلي وديع  ورفعه رأسه بغية التلويح لقائد الطائرة، لما أصيب يشظايا الصخور التي تسببت القذائف بها. كما قصفتنا المدفعية الاسرائيلية ولساعات محاولة قتلنا في التلة الصخرية التي لجأنا اليها،وكذلك في قرية كوكبا التي قصفتها بعشرين قذيفة على الأقل،ولكنها لم تصبنا أو تصب أي من سكان القرية. ولعل هذه التجربة المريرة هي  التي جعلتني فيما بعد أغطي بدون خوف عدة حروب في المنطقة، منها الحرب التركية ضد قبرص، وغزو لبنان عام 1982، ثم حرب عاصفة الصحراء ضد العراق، حيث انفجر خلفي ..وعلى بعد 48 مترا مني، صاروخ توماهوك  قتل ثلاثة أشخاص وجرح ستة عشر، أما أنا فلم أصب الا ببعض شظايا الزجاج والحجارة الصغيرة المتناثرة والتي حطت على رأسي وكتفي دون أن تقتلني أو تجرحني. والسبب أن معركة الجنوب اللبناني قد علمتني أين أقف وكيف أقف في ساحة معركة ما. ففي ذاك اليوم، في بغداد، وقفت مستندا الى الجدار الحاجز بين ساحة الفندق وحديقته حيث سقط الصاروخ.  فالجدار قد حماني يومئذ من موت محقق.


More Delicious Digg Email This
Facebook Google My Space Twitter
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع