الخميس ١٠ مارس ٢٠١٦ -
١٨:
٠٨ م +02:00 EET
كتب : فاروق عطية
دائما وأبدا أبث لكم الأخبار السارة المفرحة، ولكني اليوم علي غير العادة أجدني مضطرا وآسفا أن أعلن عليكم خبرا سيئا، ولكنها إرادة الله ولا راد لإرادته، أو كما نقول دائما ألله جاب ألله خد والله عليه العوض، ولا دايم غير وجه الدايم سبحانه. كل شيئ في الكون يولد صغيرا ثم يكبر ويشتد عوده حتي يصل لعنفوان الشباب، بعدها يصيبه الإنهاك والضعف ويضمر ويضمحل وفي النهاية يموت، وهذه سنّة الحياة. لكنه ولد عملاقا ماردا قويا يخشاه اترابه ويطلبون منه العون والمساعدة، حتي أن أشقاءه في الدول المجاورة يتسمون يإسم بلده تيمنا به وافتخارا. ظل طويلا متربعا علي عرش الفتونة والجبروت، ولكنه منذ ستينات القرن الماضي بدأت صحته في الاعتلال والتدهور شيئا فشيئا، حتي وصل الأن لمرحلة فقدان الوزن والضمور، ويعيش الآن في غرفة الآنعاش ونخشي عليه من الموت الإكلنيكي المتوقع. هذا هو حال الجنيه المصري باختصار شديد.
فى عام 1834 صدر مرسوم خديوي بشأن مشروع قانون برلماني لإصدار عملة مصرية جديدة تستند إلى نظام المعدنين (الذهب والفضة)، ليحل محل القرش العملة الرئيسية المتداولة آن ذاك. وبموجب هذا المرسوم أصبح سك النقود في شكل ريالات من الذهب والفضة حكراً على الحكومة وفى عام 1836 تم سك الجنية المصري وطرح للتداول. واصل القرش تداوله باعتبار الجنيه مساويا لـ 100 قرشا. كان القرش مُقسماً إلى 40 "بارة"، وفي عام 1885 أوقف إصدار البارة، وأعيد تقسيم القرش إلى عشر أجزاء سميت بـ "عُشر القرش" حتى تم تغيير الاسم في عام 1916 إلى "مليم".
أصدر البنك الأهلي المصري الأوراق النقدية لأول مرة في 3 أبريل 1899. تم تقييم الجنيه المصري ليكون مساويا 7.4375 جراماً من الذهب، واستخدم هذا المعيار منذ عام 1885 وحتى اندلاع الحرب العالمية الأولى 1914، حيث تم ربط الجنيه المصري بالجنيه الاسترليني بحيث كان الجنيه الاسترليني = 0.975 جنيها مصرياً، وحسابيا كان الجنيه المصري مساويا لخمس دولارات أمريكية. ظل الجنيه المصري مرتبطا بالجنيه الاسترليني حتى عام 1962، حيث تم ربط الجنيه بالدولار الأمريكي عند مستوى 2.3 دولاراً لكل جنيه مصري، وثم تغير سعر الصرف عام 1973 إلى 2.5555 دولاراً لكل جنيه مصري بعد انهيار الدولار بعد حرب أكتوبر، وفي عام 1978 تغير سعر الصرف إلى 1.42857 دولاراً لكل جنيه مصري (1 دولار = 70 قرشا) وذلك بعد انخفاض قيمة الجنيه المصري، وتم تعويم الجنيه جزئيا العام 1989 بحيث أصبح الدولار = 3.3 جنيها، إلا أن البنك المركزي كان مسيطرا على الصرف الأجنبي بحيث يحافظ على قيمة شبه ثابته للجنيه، إلى أن تم تعويم الجنيه المصري بشكل كامل في العام 2003. ومنذ ذلك الوقت ظل جنبهنا المصري المسكين يواصل العوم، ويبدو أنه لا يجيد فن العوم فظل يغوص حتي وصل مرحلة الغرق، ليصل سعر الدولار الأمريكي قرابة العشر جنبهات مصرية وسبحان مغير الأحوال.
سرحت بأفكاري في أحلام يقظة جميلة أعادتني لأيامنا الخوالى في بداية الأربعينات، ذكريات حُلوة ليتها تعود ولكنها أبدا لن تعود لأن الزمان لا يتوقف أو يتقهقر للوراء، وعلى رأى الست أم كلثوم التى تصدح قائلة " عايز الزمان يرجع زى زمان قول الزمان ارجع يا زمان" ولكن هيهات فالذى وللى لا يمكن أن يعود. أتذكر أن الناس فى الأربعينيات كانت تعتبر الأسعار مبالغ فيها وأن سبب ذلك يرجع للحرب العالمية الثانية التى انتهت ولكنها خلفت دمارا تبعه ارتفاع أسعار بعض السلع، وبالرغم من ذلك فقد كانت الأسعار ثابتة ولم تتعير منذ بدأنا أطفالا نتعامل بالشراء حتى قيام حركة الضباط (23 يوليو 1952) فى بداية الصبا والشباب. كانت بعض السلع شحيحة وتوزع بالبطاقات مثل الكيروسين والسكر وبعض الأقمشة الشعبية كالكستور والدبلان والزُفير. وكان الفرق بين سعر السلعة بالبطاقة وسعرها الحُر لا يتجاوز بضع قروش، مثلا كانت أقة السكر الحر 3.5 قرشا وبالبطاقة 2.5 قرشا، وكان لتر الكيروسين بقرش واحد وعلى كل بطاقة عدد من كوبونات الكيروسين يخفض السعر إلى خمس مليمات لكل لتر.
كنت فى بداية الاربعينات تلميذا بالمدرسة الابتدائية، وكان مصروفى اليومى الذى كان يحسدنى عليه الكثير من التلاميذ قرشا كاملا، كنت أنفق نصفه فى الفسحة الكبيرة بشراء سندوتش طعمية ساخنة وباذنجان مقلى مع السلطات نصف رغيف مليئ من الصعب على طفل مثلى أن يأكله فكنت أقتسمه مع صديق يعطينى بعض الحلوى فى المقابل. وكنت أشترى بنصف مليم لب ونصف مليم حمص وسودانى للتسلية ويتبقى معى أربعة مليمات كاملة أقتصدها حتى يتكون عندى مبلغ كبير كخمسة قروش أشترى بها كرة قدم لألعب بها مع الأتراب. كنا نشترى ثلاث بيضات بقرش ورطل اللحم بقرشين وأقة السمك من أفخر الآنواع بقرش ونصف، وكان لتر اللبن بخمس مليمات ورطل الزبد البلدى بقرش، وجرام الذهب 21 قيراط بـ 17 قرشا. وكان إيجار البيت من بابه أو الشقة المتسعة ثلاث غرف نوم بخمسون قرشا شهريا ورغيف العيش البلدى اللذيذ الطعم وجيد الصنع بنصف قرش، وكان يوجد منه أنواع عديدة منها الطرى والملدن والمفقع والمحمص ويتبارى أصحاب المخابز فى توصيل الخبز للمساكن، وكان هناك الخبز الإفرنجي (الفينو) الذي يتم خبزه بمخابز اليونانيين المقيمين معنا، الرغيف الكبير بقؤش والصغير بتعريفة (خمسة مليمات). وكانت الفاكهة والخضروات تباع بالشروة وليست بالميزان مقابل مليمات أما البلح فكنا نشتريه بطرح النخلة بما لا يزيد عن الخمسة قروش.
كان الجنيه يساوى مائة قرشا والقرش يساوى عشرة مليمات والمليم يساوى برونزتين، وكان الجنيه المصرى عملة محترمة تفوق عملات دول العالم الكبرى فقد كان الجنيه الاسترلينى الذهب يساوى 97.5 قرشا والدولار الأمريكى يساوى 20 قرشا. وكانت العملة المصرية الورقية ذات فئات مختلفة أكبرها الورقة ذات المائة جنينه، والورقة ذات الخمسون جنيه والجنيه المصرى الأخضر اللون، ثم نصف الجنيه وربع الجنيه وعشرة قروش وأصغرها الخمسة قروش. أما العملات المعدنية فكانت كالآتى: عملات فضية من الفضة الخالصة وهى الريال (20 قرشا) ونصف الريال (10 قروش) وربع الريال (5 قروش) وأصغرها عملة ذات القرشين، وهناك العملات المعدنية من النيكل وهى القرش ونصف القرش (التعريفة) ونصف التعريفة (عشرة فضة) والمليمين (النكلة)، أما العملة النحاسية فكنت المليم ونصف المليم (البرونزة). وكانت العملات المعدنية كالقرش والتعريفة باسم السلطان حسين والملك فؤاد والملك فاروق ومنها العملات المخرومة والغير مخرومة. وفى مرحلة الطفولة والصبا لم أتشرف بالتعرف بفخامة الجنيه المعظم ولم ألتقى به وجها لوجه إلا فى مرحلة الدراسة الجامعية، فقط تعرفت على العملات المعدنية من الفئات الصغرى أكبرها لا يتعدى العشرة قروش.
ظلت الأسعار ثابتة لا تتغير منذ الأربعينات حتى منتصف الخمسينات بعد قيام حركة الضباط. وبدأ الارتفاع التدريجى للأسعار فى منتصف الخمسينات وكان سبب ذلك تشدق عبد الناصر برفع أجور العمال فى كل عيد من أعياد ثورته المزعومة، دون دراسة أو إيجاد موارد للصرف على هذه الزيادات غير التضخم التمويلى بطبع المزيد من العملات بدون أن يقابلها أرصدة حقيقية. وللحقيقة فقد كانت الزيادة فى الأسعار غير كبيرة وغير متلاحقة بالصورة البشعة التى نراها هذه الأيام، وذلك لأن الدولة كانت تدعم الأسعار بالاستدانة والقروض حتى لا يحس المواطنون بهذه الفروق. وعندما انتهت الحقبة الناصرية ورث السادات إرث مثقل بالديون. وكانت البداية الحقيقية لثورة ارتفاع الأسعار التى اشتد لهيببها بعد الهزيمة المرة فى 1967، حين بدأت العمالة المصرية فى الهجرة حيث يوجد الرزق فى بلاد النفط، لدويلات الخليج والعراق ويعودون بوفرة المال التى تمكنهم من القدرة الشرائية حتى قيل أنهم السبب فى غلاء المش على الطبقات المطحونة. وازدادت الأسعار توحشا بالانفتاح الغير مخطط فى عصر السادات وظهور مافيا التوكيلات وسماسرة التجارة وحيتان توظيف الأموال، وزاد غول الغلاء توحشا فى عصر المعزول وسيطرة الحزن الوطنى على مقدرات شعب أعزل مهيض الجناح تطحنه الأمراض والجهل وتمسك بتلابيبه عوامل الفقر وكثرة العيال وقلة الحيلة.
وبعد قيام ثورتين عارمتين، وانشعال الناس بالسياسة أكثر من اهتمامهم بالعمل، ومع استمرار تحدي أنصار المخلوع من إخوان خونة وسلفيين ارهاليين في أعمال التخريب والتفجير والتفخيخ، ازداد لهيب الأسعار اشتعالا ووتيرة انخفاض قيمة الجنيه سرعة، حتي وصل إلي غرقة الإنعاش أقال الله عثرته وأبقاه حيا بمعجزة، في زمن عزت فيه المعجزات.