بقلم يوسف سيدهم
قراءة في ملف الأمور المسكوت عنها (577)
تنشر وطني في هذا العدد تحقيقا تاريخيا – عن حديقة الحيوان بالجيزة بمناسبة مرور 147 عاما علي مبادرة الخديوي إسماعيل بتأسيسها (1869) , وتزامن هذا المشهد مع مرور 125 عاما علي افتتاحها (1891) … حديقة عريقة ذات تاريخ حافل كان يضعها في رابع مرتبة بين أقدم وأكبر حدائق الحيوان في العالم بعد فيينا وباريس ولندن لكن مثلها مثل الكثير من مفاخر مصر تكمن عظمتها في تاريخها القديم بينما تتضاءل علي تلك العظمة في تاريخها المعاصر ويخبو بريقها نتيجة الإهمال وتعثر جهود الرعاية والتطوير علاوة علي تردي ثقافة احترام الحياة البرية لدي جمهور الزائرين حتي تحول الجمهور إلي نقمة بزحامه وصخبه وفوضويته وترك تأثيرات ضارة – بل مدمرة في أحيان كثيرة – علي مختلف صور الحياة البرية من حيوانات وزواحف وطيور وغيرها … وليس أدل علي ذلك كله من عنوان فرعي منشور مع التحقيق استرعي انتباهي يقول : الاتحاد الدولي لحدائق الحيوان يلغي عضوية الحديقة لمخالفتها توصياته!!
لست أتصدي لملف حديقة الحيوان بالجيزة لأتعرض لكبواتها وسبل علاجها , إنما لأفتح ملفا مسكوتا عنه بشأن فكرة حدائق الحيوان من الأصل وضرورة إعادة النظر فيها إن أردنا أن ننقلها نقلة حضارية سبقتنا إليها الكثير من دول العالم, ولن أقول دول العالم المتقدم بل أقول دول العالم التي حباها الله بثروة أو تنوع في أشكال الحياة البرية علي أراضيها. صحيح أن الأصل في نشأة حدائق الحيوان كان ما قام به الحكام والأباطرة من تجميع أنواع مختلفة من أشكال الحياة البرية الموجودة في إمبراطورياتهم لتتزين بها قصورهم ويلهون بها , ثم ما تبع ذلك من فتح تلك الحدائق للعامة من مواطنيهم… لكن مع تطوير المعرفة الإنسانية وتتابع عصور الاستكشافات البرية ودراسة أنواع المخلوقات وكيفية ارتباطها بالبيئة الطبيعية والجغرافية والمناخية التي نشأت فيها تغيرت النظرة إلي حدائق الحيوان , فلم تعد متاحف حية يتم فيها تجميع الكائنات من كل حدب وصوب ووضعها متجاورة في أقفاص حديدية وتقديم الطعام والرعاية الصحية لها واستقدام الناس ليتفرجوا عليها ويلهوا بها .. ذلك المنحي بات من أكثر أشكال الغطرسة الإنسانية التي تنطوي علي مزيج من الجهل والتعالي والقسوة بالحياة البرية.
إن النظرة العلمية الحديثة للكائنات البرية تغيرت تماما عن فكر حدائق الحيوان وأصبحت تلك الحدائق بمثابة صور مخزية تعكس جرائم نكراء يرتكبها الإنسان في حق هذه الكائنات… فوضعها داخل أقفاص بدعوي وحشيتها وخطورتها علي الإنسان جريمة , وإطعامها وعرقلة فطرتها في الصيد أو في الحصول علي مأكلها من بيئتها الطبيعية جريمة , وفصلها عن التركيبة الجغرافية والمناخية والبيئية الخاصة بها جريمة , وتعريضها لزحام وصخب الإنسان المتكاثر حولها جريمة .. ولأدلل علي ما أقول , كيف يمكن الجمع بين المخلوقات القطبية التي تعيش في المناطق الجليدية المتجمدة وتلك الاستوائية التي تعيش في الغابات الحارة والممطرة ؟!! … وكيف يمكن تجاور أنواع مختلفة متناقضة لم تجمع بينها الطبيعة لمجرد تجميعها في مكان واحد لتلبية غرور الإنسان وصلفه ؟!!
من هنا نشأت فكرة حدائق الحيوان المفتوحة التي يطلق عليها السفاري أو فكرة تطويق واحتواء مساحات جغرافية شاسعة تزخر بالحياة البرية في صورة محميات طبيعية حيث يترك الإنسان في هذه الحدائق أو تلك المحميات منظومة الطبيعة كما هي دون تدخل أو اعتراض ودون المزج المتعمد بين أنواع لا تنتمي للمكان ولا للبيئة .. الفارق الأساسي بين السفاري والمحميات أن الأولي يتم فيها الفصل بين الكائنات المفترسة وغير المفترسة حيث تخصص لكل منها مساحات شاسعة تتحرك وتتجول فيها بحرية وسط الطبيعة التي نشأت عليها , بينما الثانية لا يتدخل الإنسان فيها إطلاقا ويترك مسارات الحياة البرية تتفاعل وتتقاطع وتسير بناء علي قوانين الطبيعة والفطرة دون غيرها .. بل إن الحقيقة المطلقة في السفاري والمحميات ليست إعادة التحكم في صورة الحياة البرية لكن علي العكس هي في التحكم في السلوكيات الإنسانية بوضع الضوابط لعدم إفساد الإنسان للطبيعة وتحديد مسارات خاصة ومواعيد محددة لتجواله فيها مع رقابة صارمة لضمان عدم تدخله في الدورة الحياتية للكائنات , وأخيرا تجريم كافة صور الصيد للحفاظ علي الثروة الطبيعية وحمايتها من الانقراض.
وهكذا ولي زمن زيارة حديقة الحيوان التقليدية لتحل محلها حدائق السفاري … وانتهي بغير رجعة انقضاض الإنسان علي أشكال الحياة البرية وتجميعها ليلهو بها الحكام أو للترفيه عن العامة في نزهاتهم .. إذا ما العمل في حديقة الجيزة؟ .. إن الفكر العلمي الحديث والسلوك الإنساني المتحضر يملي علينا حتمية تصنيفها وعودتها لبداياتها الأصلية عند نشأتها وقت كانت حديقة نباتية هائلة تزخر بثروة نباتية وشجرية نادرة, أما الحيوانات والكائنات البرية التي لا تتنافر مع منطقتنا الجغرافية ومعاييرنا المناخية فأقترح أن يجري تخطيط حديقة سفاري ملحقة بالعاصمة الجديدة أو خارج الكردون العمراني لها حيث يمكن تخصيص مساحة شاسعة لا تسمح بحرية حركة وانطلاق الكائنات التي تضمها وسط طبيعة مناسبة لها وأنواع متناغمة معها .. ودعونا بشجاعة نودع زمنا كنا نأخذ فيه أطفالنا ليتفرجوا علي أسد في قفص بجوار جبلاية قرود متاخمة لحديقة يركبون فيها علي ظهر فيل وعلي مقربة منها بقعة ماء صغيرة يغطس فيها دب قطبي وسط ألواح ثلج ملقاة في الماء لتبريده في قيظ الصيف !!!!
نقلا عن وطنى