فى المرة الماضية تلقيت دعوة للقاء مع الرئيس السيسى بعدد من المثقفين، واعتذرت مع كامل احترامى لمقام الرئاسة، فقد عرفت حينها أسماء المدعوين وعددهم، ونتيجة تجربة سابقة، رسخت عندى قناعة أن دعوات موسعة لعدد كبير من الناس لتبادل الآراء يرجح فيها احتمال إهدار كثير من الطاقة والوقت، دون الحصول على نتائج مجزية من مثل ذلك اللقاء، وبخاصة عندما يكون المدعوون ممن يحملون لقب «المثقفين»، وقد حضرت من قبل لقاءات جعلتنى «أفر» من أخذى بسيف الحياء، وسفح طاقة صبرى المحدود على مثل هذه «المَكْلَمات». وبصراحة، لم يكن المسؤول عن هذا الانطباع السلبى لدى هو الرئيس، بل «المثقفون». فلماذا رحبت هذه المرة بالدعوة؟
هذه المرة، جاءتنى الدعوة بعد أيام قليلة من وقوع جريمة قصف كمين الصفا بالعريش، ومقتل 15 مصرياً شاباً، منهم 11 مُجنداً و4 ضباط شرطة، وكانت صورة الشهيد محمود منير وهو يحمل طفله الذى يشبه ولدى فى طفولتهما، تخترق قلبى وتحرق صدرى، خاصة وقد كانت هناك ضوضاء إعلامية واستنفار سياسى حول موضوع المطاردة القضائية لبعض منظمات المجتمع المدنى الممولة خارجيا للعناية بحقوق الإنسان فى مصر، وأسترجع ذهنى بألم أن هؤلاء الجنود والضباط كأنما لا عزاء لهم، كأنهم ليست لهم أى حقوق إنسان، فما من واحد ممن يلهجون على كل منبر وفى كل زاوية أو برواز بهذا الشعار النبيل، توقف بجملة لينعى إهدار حقوق إنسانية هؤلاء الجنود البسطاء الذين لم يتجاوز معظمهم العشرين، والضباط الشباب الذين باغتتهم رصاصات وألغام ومتفجرات خِسة لا حدود لعماها الروحى ودمويتها الوحشية. وقد كان شهداء حاجز الصفا بالعريش قد قضوا بقصف من بعيد وتحت جنح الظلام بمدافع الهاون والآربيجيه ومُنعت سيارات الإسعاف من الوصول إليهم!
هذه اللحظة الأليمة تواكبت مع ذروة إحساس، خاص جدا، بآلام بلد عربى تكالب كل شياطين العالم على إحراقه وتشريد كرام أهله، بأيادى أبالسة عرب ومسلمين أضرمت فيه النار، وقد كانت ولا تزال هذه المعاناة الخاصة تحملنى إلى الوعى بالمقارنة، فأوقن أننا فى نعمة، ولو نسبية، وأننا نجونا من مصير هذا الحريق وهذا التشريد، بفضل من يقدمون أرواحهم فى صد القصف الغادر لهذا الشر. وقد أشعرتنى مذبحة كمين الصفا بأننا فى خطر. وفى مثل هذه اللحظة أجدنى إنسانا عاديا تماما، أزيح تحفظاتى على بعض ممارسات أجهزة ومؤسسات الدولة، وأُكبِر تضحيات وبسالة مؤسستى الجيش والشرطة. ومن ثم، جاءتنى دعوة الرئاسة للقاء يدور فيه نقاش مع رأس الحكم، فرأيتها فرصة لأطرح أسئلتى عن حدود ما يتهدد بلدى من خطر، وأقترح بعض ما أتخيله لازماً لإبعاد هذا الخطر.
إننى أُسهب- عن قناعة- فى كتابة ما أسميه «المقال المُعمَّق» الذى تنشره لى «المصرى اليوم» منذ فترة، لكننى فى الفعاليات العامة لا أحب أن أتكلم كثيرا، أركز أفكارى فى بضع نقاط سريعة فى ربع صفحة، لإطلاقها فى أقل من خمس دقائق، مقدراً أننى لست وحدى فى المكان. وهذا ما رتبته تلبية لدعوة الرئاسة، متوسماً أن تغيُّر الأحوال سيغير من عادة بعض «المثقفين».
لكن توسمى لم يسفر إلا عن توهُّم، فقد انفتحت «المَكْلَمة»، واستهلك ربع المتكلمين معظم الوقت، فلم يتكلم ثلاثة أرباع الحاضرين، برغم أن الرئيس تنازل عن افتتاح اللقاء باختزال كلمته فى دقيقتين، قائلاً إنه يريد أن يسمع منا لا أن نستمع إليه. وكان طبيعياً فى الربع ساعة الأخير أن يُعقِّب الرئيس. وفى رأيى أن حديثه كان منطقياً وأكثر واقعية من التنظيرات الطويلة لبعض الحضور. وكان أكثر صدقا وهو يتواضع «ممكن يبقى عندى أخطاء لكن باحاول أصلحها»، وأكثر إمساكاً بجوهر الأمور وهو يقر بأننا «بلد فقير» وأن «تحديات مصر عميقة». كان أفضل أداء من بعض «المثقفين» الذين كأنما كانت أغلى أمانيهم أن يعلنوا «نحن هنا».
طويت ربع ورقتى التى دونت فيها نقاطاً سريعة مفادها:
1 ـ لن يكون هناك اقتصاد فعال دون استقرار أمنى، فى دولة يسودها العدل، لا يُحبس فيها الأطفال ولا يتسلط فيها البعض على المختلفين بقوانين «حسبة» سيئة التشريع، وثمة اقتراح عملى فى مواجهة ما يسمى «الإرهاب» الذى لا أراه إلا إجراماً، يتمثل فى جهاز دعم شُرَطى يتشكل من متطوعين أنهوا خدمتهم العسكرية فى القوات الخاصة والصاعقة ومنهم أصحاب مهارات دفاعية رفيعة أهّـلت كثيرين منهم لأن يكونوا نماذج رائعة فى مساهمات مصر فى قوات حفظ السلام الدولية، مقابل أجور مجزية يستحقونها، خصوصا أن كثيرين منهم ممن كانوا يعملون فى الأمن الخاص، صاروا يعانون البطالة بعد انهيار السياحة المُتعمد من قوى الشر الخارجى وعميان الحقد الداخلى.
2 ـ نحن دولة فقيرة فى حالة عسر لا يُسر، ومن هنا وجب اتباع سياسات الترشيد فى الإنفاق والموارد، ومنح الأولوية والحماية للمنتج المحلى، خاصة فى الزراعة والتصنيع الغذائى، وثمة أفكار لخبراء يؤكدون إمكانية زراعة ما تبقى من الساحل الشمالى بالحبوب على الأمطار الشتوية، ولعل هذا يكون بديلاً لمشاريع زراعة الصحراء على مياه جوفية غير متجددة. أما فى المتبقى من أرض الوادى فلابد من البحث عن أساليب حديثة لزراعة محاصيل مناسبة ومجزية العطاء ببذور عالية الجودة، سواء بالاستنباط المحلى أو باستيراد الأجود تحت رقابة صارمة. وعن الاستزراع السمكى فى بلد ببحرين ونهر عظيم، فثمة ما يؤكد أنه يمكن أن يُغْنى حتى أفقر فقرائنا بالبروتينات زهيدة السعر.
3 ـ لا معنى لتوسع جديد فى «المعمار» الذى يُكدِّس لدينا المزيد من «الثروة الميتة» فى وجود مدن أشباح بها مئات آلاف الوحدات السكنية المهجورة وهى الأولى بالاجتهاد فى تسكينها بعدالة. وإلحاقاً بذلك، لا أرى ضرورة لإنشاء مدن جديدة كمدينة للأثاث- على سبيل المثال- فى دمياط، بينما دمياط هى مدينة أثاث قائمة بالفعل، لكنها تحتضر ولا تتطلب لإنعاشها سوى قوانين حماية وطنية للمنتج المحلى، مع برامج فنية وتقنية موازية لتطويره وترقيته للمنافسة العالمية.
4 ـ إن دخولنا بإصرار فى «عصر الطاقة الشمسية» الواعدة، التى تغمرنا بفيضها الضوئى والحرارى، هو أجدى اقتصاديا وأكثر استدامة، ومناسب تماما لبلد فقير كثيف السكان كبلدنا، وقدوتنا فى ذلك الهند التى نشرت صحف العالم- فى يوم اللقاء نفسه- نبأ نجاح أول مطار فيها يعتمد كُلياً على الطاقة الشمسية للحصول على ما يكفيه من كهرباء.
5 ـ بدلا من خفة الحديث فى تجديد الخطاب الدينى بمائة ألف «تابلت» فى الكتاتيب العصرية كما يبشرنا وزير الأوقاف، أو مقارعة شيوخنا الكبار لأوروبا بحقيقة إسلامنا الذى ينبذ العنف.. لماذا لا يضطلع الأزهر ووزارة الأوقاف بتفنيد جاد لأخطر كتاب يمثل أداة تجنيد منتسبى «داعش» ودليل تكتيك واستراتيجية حروبها التكفيرية الدموية، كتاب «إدارة التوحش» المنسوب لمؤلفه اللغز «أبوبكر ناجى» والمتاح على 25 ألف رابط على الشبكة العنكبوتية!
انتهى اللقاء الذى طال ثلاث ساعات، ولم تمكنى- كما لم تمكن غيرى- بحبحات بعض المتكلمين من طرح ما وددت طرحه. سلَّمت على الرئيس داعياً له بصدق بعد عناء التجربة: «ربنا يحفظك ويقويك». فأجاب فاتحاً ذراعيه: «يحفظنا كلنا».
وما إن انتهى التقاط الصور التذكارية، حتى انصرفت، راجعاً إلى سابق وعدى لنفسى: لن أحضر أى لقاء ضمن جمهرة من «المثقفين» بعد ذلك أبداً. لكننى- بجد وصدق- سأرحب دائماً بأن أكون مع الفلاحين.
نقلاً عن المصرى اليوم