كان انتقالنا من القاهرة إلى مدينة المحمودية الراسية مباشرة على الضفة الغربية لدلتا نهر النيل قبل أن يبلغ المصب من في نقطة التقاء النهر بالبحر الأبيض المتوسط بكيلو مترات عند مدينة رشيد الملاصقة للمحمودية حيث محل اقامتنا الجديد أثناء حرب أكتوبر 1973.
وأول مكان تعرفت عليه بعد منزلنا الجديد كان ذلك المكان الذي كنت أشتري منه الفول المدمس للفطور كصبي في أسرة مصرية متوسطة الحال أو أدنى.
كان هذا المكان هو دكان بقالة ( عم جلال سنكل) الذي كان يضع قدرة الفول الصباحية على يمين اللوحة الرخام لدكان البقالة
تحول طقس شراء الفول المدمس يوم الجمعة والإجازات الرسمية والدراسية إلى متعة معرفية كبرى بل ولا أبالغ أنه كانت هناك مدرسة صباحية موجزة في الوطنية المصرية تعلمت فيها الكثير كان طرفاها الأستاذ إدوارد عياد الموجه بالإدارة التعليمية الذي كان يقطن مستأجراً لشقة في مواجهة دكان عم جلال سنكل الرجل القصير ذو الملامح الجادة والذقن اللامعة بعد حلاقة ماهرة برائحة الكولونيا والشارب الخفيف المحفف بعناية دقيقة في وجهه الذي تعتليه طاقية صوف بهية بلون يتناسب مع جلبابه القروي الأنيق المصنوع من منسوجات عمر أفندي الصوفية المفتخرة ماركة سيلكا.
كنت اندهش كيف يحافظ عم جلال سنكل على تلك الأناقة ويجمع بينها وبين الوقوف خلف قدرة الفول المدمس والبقالة في آن واحد، والله لقد تخيلته الآن وهو يمسك بمغرفة الفول كمايمسك مايسترو الأوركسترا الموسيقية عصاه. ربما لأن صديقه وابن شارعه الحميم الأستاذ إدوارد عياد الموجه الوقور كان موسيقياً عظيماً كما عرفت فيما بعد بسنتين أو أقل عندما ذهبت إلى بيت الثقافة للقراءة في مكتبته العامة ووجدته هناك يعقب على أداء عازفي الموسيقى وهم يتدربون على عزف مقطوعات الست أم كلثوم وكنت أراهم يعلقون عيونهم به بعد أن ينتهون من العزف ينصتون لملاحظاته وكلماته وكلما فرغ من جملة يهزون رؤوسهم عبر انحناءات التأدب والإحترام والإعجاب والإمتنان.
ماعلينا
ليس هذا هو الموضوع الأساسي
الموضوع كان متمثلاً في قدوم الأستاذ إدوارد عياد صباحاً إلى ناصية دكان عم جلال سنكل فيسأله عم جلال سنكل بابتسامة
- إيه الأخبار النهارده
وعلى الفور كانت تدور الحلقة النقاشية
( عرفت مصطلح الحلقة النقاشية فيما بعد ذلك بخمسة عشرة عاماً على يد الأستاذ عبد الغفار شكر الذي كان أميناً للتثقيف في حزب التجمع)
كان الأستاذ إدوارد عياد بعودة الفارع وقوامه الممشوق وشعره الأبيض الناعم الممشط بعناية إلى الوراء تاركاً خصلة منه تتدلي بأناقة على جانب جبهته الوضاءة بعينيه الرماديتين أو ربما السنجابيتين ووجهه المبتسم من خلال تجاعيد حكيمة طيبة ورائعة وبإشعاع يعكس ثقافة عميقة ووطنية مصرية حتى النخاع
يشعل سيجارته الصباحية ويبدأ الحديث حول الوضع الحالي للقوات المصرية
فيقاطعه عم جلال سنكل قائلاً
- بس الواد سعد الشاذلي ولد ماجابتهوش ولاده وهايفعص الإسرائيليين في الدفرسوار
ويرد الأستاذ إدوارد متحدثاً عن مواقف أمريكا والإتحاد السوفيتي وتأثيره على الوضع السياسي العام
ويرد عم جلال سنكل متحدثاً عن دور الصاروخ سام 7 السوفيتي الصنع في تدمير الطائرات الإسرائيلية
كنت أنا أتزحزح بطبق الفول إلى الخلف حتى لايلتقطه عم جلال سنكل ويملأه بمغرفته التي خلق منها عصا مايسترو يضبط بها إيقاعات النقاش التي تحتدم أحياناً وتبدأ أحياناً
أتباطأ حتى لايأتي دوري في إستلام طبق الفول وتنتهي مهمتي وتنتهي متعة الإستماع إلى الصديقين الحميمين عم جلال سنكل، والأستاذ إدوارد عياد.. رحمهما الله.
الأستاذ إدوارد عياد عرفته فيما بعد وحكى لي كيف أنه عندما ماتت الست أم كلثوم كسر عوده المصنوع من خشب الورد المفتخر بيده وأعطاه إلى زوجته أم جورج وجوليا زملائي في المدرسة الثانوي وفؤاد أخيهم الذي سيصبح بعد عقود مدرساً لبنتي هاله ثم ابني محمد.
الأستاذ إدوارد عياد الذي كان موسيقياً بارعاً إذا ما أمسك بالعود أرعش اوتاره بمكنون روح الموسيقى ليشعل آهات المتحلقين حوله في بيت الثقافة بمعزوفات رياض السنباطى الذي كان يرى أن أم كلثوم قد أخطأت خطأً كبيراً عندما تحولت من الغناء على موسيقاه إلى الغناء على موسيقى عبد الوهاب.
بل كان يقول متطرفاً في ذلك
أم كلثوم ماتت منذ أن غنت لعبد الوهاب
وان عبد الوهاب صنايعي موسيقى لكن السنباطى معجون بروح الموسيقى
لا أفهم في الموسيقى يااستاذ إدوارد
لكنني أفهم الآن أنك - رحمك الله - كنت أول علامة تنويرية صادفتها وأول مثقف عضوي عرفته على الإطلاق
كذلك أفهم أن صديقك عم جلال سنكل البقال رحمه الله علمني المعنى الذي عرفته من صوت عدلي فخري فيما بعد
( مصر تعرف ف السياسه...)