الأمانة، الشرف، الصدق، الاخلاص: جميعها مترادفات تبحث عنها الإنسانية والأوطان والمجتمعات للتقدم والازدهار والنمو وسعة الحياة؛ فتترك علامات مضيئة في ذاكرة التاريخ. وحين تغيب الأمانة عن البشر، نجدهم لا يَجنون إلا التخبط فيَضلون الطريق، إذ يفقدون ذلك السراج المضيء في دُروب الحياة.
وفي نقاط سريعة نتحدث عن الأمانة، ذلك الكَنز الذي لا يقدر بمال في حياة الإنسان:
أولاً: الأمانة هي إحدى الفضائل الأساسية التي تحُث الأديان جميعـًا الإنسان على السُّلوك بها في حياته؛ وهي صفة من صفات الله ـ تبارك اسمه ـ فيقول الكتاب: “لأجْل الرب الذي هو أمين”، وأن الله: “القدوس الأمين”. وفي القرآن نجد حث الإنسانِ على أن يكون أمينـًا في معاملاته: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُم أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ﴾.
ثانيـًا: الأمانة صفة ثابتة، لأن الإنسان الأمين يكون في جميع مواقفه وحياته أمينـًا: إنه أمين مع الله فيحفظ تعاليمه ووصاياه ويسلك بها، وهو أمين مع نفسه في معرفته بإيجابيات حياته وسلبياته فيدرب نفسه على النمو في تلك الإيجابيات ويبذُِل كل جُهده في تعديل السلبيات. وهو أيضـًا أمينـًا في عَلاقاته بالآخرين؛ فتجده صادقـًا وفيـًّا لا يخدع من حوله. لذلك لا يمكننا أن نجد إنسانـًا أمينـًا في جانب أو جانبين بينما هو غير أمين في باقي الجوانب! إن الأمانة مبدأ في الحياة يسلك به من اختار وتدرب على ذلك الطريق. كذلك فإن الأمين لا يتغير أداؤه في عمله مع وجود رقيب عليه أو عدم وجوده، إذ ما يحكم تلك الأمانة هو ضمير خالص يكون حكَمه وحاكمه في جميع ما يفعل.
ثالثـًا: يقول الفيلسوف الكاتب الأديب السويسريّ “چان جاك روسو”: “أعطِني قليلاّ من الشرفاء وأنا أحطم لك جيشـًا من اللصوص المفسدين والعملاء”! إن الشخص الأمين يؤدي ما يسنَد إليه من عمل بأمانة، وعلى خير وجه، وبضمير صالح في كل ما أوكل إليه. وكما يقولون: “إن العملة الجيدة تطرد الرديئة”، هٰكذا وجود الأمناء في العمل يحطم كل فساد وضَعف يحاولان أن يسودا أو يتفشيا؛ لذلك إن أردتَ أن تحارب الفساد في أيّ مكان، ابدأ بنفسك وكُن أمينـًا.
رابعـًا: الأمانة تنجي الإنسان وتُنقذه من جميع الفخاخ. ومن القِصص الطريفة التي قرأتُها في ذلك: أن أحد الأشخاص فيما هو يحاول الهرب من تتبُّع اللصوص له، التقى حطّابـًا يقطِّع الأخشاب وطلب منه أن يساعده على الاختفاء من اللصوص، فأشار الرجل عليه بالاختباء في كَُومة حطب. وعندما أتى اللصوص وسألوا الحطاب هل كان قد مر به أحد يجري قبل قليل، أخبرهم بأن شابـًّا يختبئ في الحطب! فسمِع الشاب حديث الحطاب، وانزعج جدًّا حتى كاد قلبه أن يقف!! لولا أنه وجد اللصوص يسخرون من الحطاب، قائلين بعضهم لبعض: إنه يريد أن يَعوقنا عن ملاحقة الشاب، وانصرفوا بسرعة. وبعد قليل خرج الشاب غاضبـًا، وقال للحطاب: لِمَ أخبرتَهم بمكاني بعد أن ارتضَيتَ أن تخبئني؟ فقال الحطاب: يا بُنيّ، إن الصدق هو ما ينجي الإنسان.
خامسـًا: الأمانة تُكسب الإنسان حُسن ثقة من حوله؛ فالإنسان الأمين تنعكس أمانته في جميع معاملاته فيضعه الآخرون موضع ثقتهم، وفي أعمالهم يعتمدون عليه، وهٰكذا يخطو سريعـًا في طريق النجاح؛ وفي هٰذه المعاني نجد شخصية “يوسُِف الصدِّيق” الذي كان أمينـًا في كل ما يوكَل إليه من عمل: كان أمينـًا في بيت سيده، وكان أمينـًا على امرأة سيده، وكان أمينـًا أيضـًا في السجن؛ فبارك الله كل عمل له.
سادسـًا: الإنسان الأمين يكون أمينـًا فيما يقدمه من نصائح إلى الآخرين فنراه يطلعهم على حقيقة الأمور بأُسلوب غير جارح. كذلك يكون أمينـًا تجاه الجميع؛ لأن صدقه ينبَُِع من داخله لا من المواقف أو الأشخاص، وإن اختلف معهم، فهو “فِعل” لا “رد فعل”. يقولون: “كُن أمينـًا مع الأمناء، وكُن أيضـًا أمينـًا مع غير الأمناء؛ وحينئذ يمْكن الأمانة أن تنتشر بين البشر.”. ومن الأمانة أن يحذر الشخص من يراه يسلك دربـًا غير مستقيم سيؤدي به إلى المخاطر والأتعاب، وإنْ كان ذلك يحتاج إلى وجود محبة وثقة بينهما كافيتين لئلا يُفهم الإنسان الأمين على نحو خاطئ. أيضـًا يقدِّم الأمين الحق في أقواله، ولٰكن دون تجريح: فالأمانة والصدق لا يعنيان أن تجول بين البشر تجرح بكلماتك من تلقاه باسم الأمانة، بل أن تقدِّم الحق بأسلوب حقانيّ: بحكمة ولطف، إذ لا أحد يخلو من العُيوب.
سابعـًا: الإنسان الأمين يحافظ على ما يؤتمن عليه من أيّ شخص: سواء كان حفظ أشخاص أو أشياء أو أسرار، مدركـًا أن مجازاة الأمانة هي من الله ـ تبارك اسمه ـ الذي هو أمين أمانة مطلقة، وعادل عدلاً لا محدود فيجازي الأمناء بحسب أمانتهم؛ لذٰلك على كل من يسلك في حياته أمينـًا أن يثق أنه حتمـًا ستُرد إليه أمانته. وأمّا من يخون الأمانة فلن يعرِف النجاح الحقيقيّ. يقول “آبراهام لِنكولِن”: “تستطيع أن تخدع كل الناس بعض الوقت، أو بعض الناس كل وقت، ولٰكنك لا تستطيع أن تخدع كل الناس كل الوقت.”. فإن نجح إنسان في أن يسلك بغير أمانة بعض الوقت، لن يتمكن من الاستمرار في خداع البشر في جميع مواقف الحياة. ولا يوجد أفضل من أمانة الإنسان في هٰذه الدنيا، وعلى النقيض لا أقبح من الخيانة والكَذِب عند الله والناس! ففي جميع العُصور والمواقف تُثبِت أمانة الإنسان أنها الكَنز الحقيقيّ الذي يملِكه، والباب المؤدي إلى ثقة الآخرين به.
ثامنـًا: الأمانة هي سمة الإنسان الوفيّ والمخلص، وهي تكشف معادن البشر الحقيقية وصدقهم. فالحكم على صلاح إنسان أو عدمه لا يتأتى من خلال كلماته بل أفعاله التي تبرهن على صدقه وإخلاصه.
إن الحياة دون أمانة أشبه بالمسير في طريق وعِر يؤدى بلا شك إلى هلاك مَن يسير فيه. وقد يتساءل الإنسان: وما فائدة الأمانة، إن كان البشر غير أمناء؟! أو: لماذا أبقَى أمينـًا في حين أن الآخرين لا يستحقونها؟! وهنا لا أجد إلا كلمات الكاتب الكبير “محمود عباس العقاد”: “كُن شريفـًا أمينـًا، لا لأن الناس يستحقون الشرف والأمانة، بل لأنك أنت لا تستحق الضِّعَة والخيانة!”.
وختامـًا: إن بلادنا الحبيبة “مِصر” هي في وقت فارق، وتحتاج إلى كل مخلص وأمين كي ما تستطيع أن تستعيد مكانتها التي عُرِفت بها وميزتها منذ العصور القديمة، فهي قدَّمت كثيرًا إلى العالم وما زالت، ولا تستحق منا إلا كل إخلاص وتفانٍ؛ إنها بُنيت بسواعد أبنائها المخلصين، وارتفعت إلى القمم بعملهم وتفانيهم، وستستعيد مجدها بعملهم وأمانتهم.
الأسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأُرثوذكسيّ
نقلا عن الأنبا ارميا