بقلم يوسف سيدهم
قراءة في ملف الأمور المسكوت عنها (580)
لاشيء يدعو للأسي أكثر من إصرار صاحب الحق علي أن يخسر معركته ويهزم نفسه بنفسه .. إما بدعوي الخوف أو بدعوي الحرص أو حتي بدعوي السلبية والعجز .. أقول ذلك لأني بينما أتساءل عن أسباب سقوط أحكام المواريث من لائحة الأحوال الشخصية للمسيحيين أصطدم بتبريرات غريبة أسيرة هواجس ومحاذير من صنع أصحابها لا تتواءم مع الظرف التاريخي الذي نحن بصدده.
نحن أمام دستور يعطي المسيحيين لأول مرة الحق في اللجوء إلي شرائعهم الخاصة في أحوالهم الشخصية, وأمام تاريخ طويل من ترسيخ المساواة بين الرجل والمرأة في شرائع المواريث حتي أن تاريخنا المعاصر يتضمن القوانين التي تعترف بخصوصية المسيحيين وحقهم في الاحتكام إلي ذلك, بل إن التشريعات التي أقرت الشريعة الإسلامية كمصدر لأحكام المواريث لجميع المصريين (القانون رقم 25 لسنة 1944) تركت الباب مواربا للمسيحيين للاحتكام إلي شرائعهم إذا اتفق الورثة علي ذلك.
كما أننا نعيش فترة من التلاحم الوطني الذي أفرزته محنة سقوط هذا البلد في براثن حكم الإسلام السياسي وسطوة جماعة الإخوان المسلمين حيث فطمت مصر من بدعة حكم الدين ووقف المصريون معا يذودون عن أصالتهم وحضارتهم ويتطلعون إلي إرساء دعائم الدولة الديمقراطية الحديثة التي تحترم كل أبنائها وتكفل حقهم في المساواة الفعلية .. أتعرفون ما هي المساواة الفعلية ؟ .. إنها ليست إجبار أي أقلية علي الانصياع لما يناسب الأغلبية رغما عنها, بل هي المساواة في احترام خصوصية الأقلية وكفالة حقها في الاحتكام لشرائعها الخاصة طالما أنها لا تضر بالقانون ولا النظام ولا الاستقرار والسلام الاجتماعي.
في ظل هذا المناخ المواتي تشريعيا ووطنيا كان المفترض أن تتضمن لائحة الأحوال الشخصية للمسيحيين بابا خاصا بالمواريث يتواءم مع ماضيهم الطويل العريق في المساواة بين الرجل والمرأة في الأنصبة ويعطي نموذجا يحتذي للوطن كل في مرحلة مهمة نسعي فيها لإدراك المساواة بين الرجل والمرأة واستعادة حقوق كثيرة مهضومة للمرأة وتفعيل تمكينها من المشاركة في النهوض بهذا البلد مثلما شاركت في إنقاذه من محنته.
لكن الغريب أن أحكام المواريث سقطت من لائحة الأحوال الشخصية للمسيحيين والأغرب ماسيق من مبررات لتبرير ذلك .. بدءا من التشكيك في تبعية المواريث للأحوال الشخصية (!!!) … ومرورا بتعليل عدم ذكرها في الكتاب المقدس.
وتلك تبريرات ذكرتها وقمت بتفنيدها في مقال الأسبوع الماضي الذي تصورت أني أغلق به هذا الملف المسكوت عنه وأكتم معه ما يعتمل في نفسي من إحباط إزاء ما آل إليه من استسلام لواقح تقاعس الجميع عن إصلاحه فيبقي حاملا شبهة استمراء الرجل المسيحي بقاءه ..وطبعا تعرفون لماذا!!!
لكني فوجئت بتبرير غريب لم أتوقعه إطلاقا .. رأي يقول بضرورة الحرص في لائحة الأحوال الشخصية ألا تتضمن ما يستفز إخوتنا المسلمين لئلا يعرقلوا تمرير اللائحة برمتها عند عرضها علي مجلس النواب !!! .. ولا أخفيكم أني أصبت بصدمة إزاء هذا الرأي .. نستفز إخوتنا المسلمين ؟!! … يعرقلوا تمرير اللائحة ؟!!!… مجلس النواب يلزم المسيحيين بالانصياع للشريعة الإسلامية في المواريث وإلا يرفض لائحة أحوالهم الشخصية ؟!!… ما هذا ؟ … ألسنا بذلك الخوف والحرص والسلبية والعجز نخسر حقنا قبل أن نطالب به؟.. ألسنا نخسر معركتنا – إن كانت هناك معركة أصلا- ونهزم نفسنا بنفسنا؟!!!
كيف يمكن أن يستقيم هذا الموقف مع حق كفله الدستور؟… ولماذا نفترض أن الاحتكام إلي شرائع المسيحيين في الخطوبة والزواج والطلاق والمواريث… إلي آخر ذلك من الأحكام سوف يستفز أو يغضب إخوتنا المسلمين ؟.. وهل شرعنا في التواصل معهم – سواء برلمانيا أو مؤسسيا أو شعبيا أو دينيا- لشرح ضوابط لائحتنا وأحكامها ووجدناهم مستفزين أو غاضبين؟ .. هل نفترض أن جميع النواب المسلمين في البرلمان سيصوتون ضد اللائحة إذا تضمنت ما يتنافي مع شريعتهم؟.. إذا كان ذلك حقا فلنعرف أن اللائحة مرفوضة حتما سواء بالمواريث أو بدون المواريث .. لكن الواقع غير ذلك السيناريو الانهزامي تماما.. الواقع أن اللائحة تتواءم مع المادة الثالثة في الدستور وسيتم طرحها علي البرلمان ضمن البرنامج التشريعي للحكومة وستنال المساحة العادلة التي تستحقها من المناقشات والاستفسارات والردود , ثم بعد إغلاق باب المناقشة سيتم التصويت عليها وفرصتها في الحصول علي الموافقة سانحة لأنها ليست سببا للمواجهة بين المسلمين والمسيحيين علي الإطلاق.
وحتي لو فرضنا أسوأ الاحتمالات وتكتل البرلمان ضد الموافقة علي بند من بنود اللائحة فسيتم التصويت علي استبعاد ذلك البند أو شطبه , لكن اللائحة أبدا لن تتعطل أو ترفض.
ألم أقل لكم إن ما يحزنني أننا نبرع جدا في حرصنا وخوفنا وحذرنا حتي نهزم نفسنا بنفسنا حتي قبل أن تبدأ معركة الحصول علي حقوقنا؟!!!
نقلا عن وطنى