تمسك مروى دميتها "الباربي" وألعابًا أخرى وتسير بحذر برفقة والديها بين الأبنية التي تصدعت جدرانها وتدمر بعضها الآخر، في زيارتهم الأولى إلى مدينة تدمر في وسط سوريا بعد نحو أسبوعين على طرد تنظيم "داعش" منها.
وتقول مروى (ست سنوات) وهي ترتدي قميصًا مرقطًا ويغطي شعرها الناعم جبينها لوكالة "فرانس برس": "ثمة ألعاب لم أجدها في المنزل. وجدت الباربي والدب ودفترًا فقط" قبل أن تضيف بحماس "سأعود مجددًا لأبحث عن بقية ألعابي" في الأيام المقبلة.
وإلى جانب مروى يسير والدها جمال (55 عامًا) ويجر عربة صغيرة وضع عليها حقيبة وحاجيات أخرى أخذها من منزله الذي تركه قبل 10 أشهر، أي قبل أيام من سيطرة تنظيم "داعش" على المدينة بالكامل في مايو الماضي.
ويقول جمال وهو سائق حكومي يقيم منذ ذلك الحين في حمص "السبب الرئيسي الذي دفعني للقدوم اليوم إلى تدمر رغم المخاطر هو مروى وألعابها، ولأحضر ماكينة الخياطة التي تعمل زوجتي عليها وتشكل مصدر رزق لنا".
وتفقد السبت مئات النازحين من سكان تدمر منازلهم وممتلكاتهم بعد وصولهم من مدينة حمص على متن 25 باصًا حكوميًا بإشراف محافظة حمص التي تتبع المدينة إداريًا لها.
وأمضى المئات من السكان ساعات عدة في تدمر قبل أن يعودوا أدراجهم إلى حمص، وهم يشعرون بالحزن لشدة ما عاينوه من دمار وفوضى في المنازل والأبنية والشوارع.
وقال مراسل "فرانس برس" في المدينة، إنّ معظم الأهالي أعربوا عن فرحتهم لدى نزولهم من الباصات لعودتهم إلى تدمر، لكن سرعان ما تبدد ذلك لدى تجولهم في المدينة ومعاينة منازلهم. ولم يتمكن عدد منهم من حبس دموعه تأثرًا.
ولا تتردد حياة، والدة مروى، في التعبير عن امتعاضها من العودة إلى حمص. وتقول "لا مكان للمرء أفضل من بيته. صحيح أنه لا ماء ولا كهرباء لكن لو يسمحون لي بالبقاء هنا لنمت في المنزل رغم الركام والغبار والفوضى".
وتمكن الجيش السوري والمسلحون الموالون له بدعم روسي في 27 مارس من استعادة السيطرة على المدينة التي تعرف باسم "لؤلؤة البادية" السورية بسبب مواقعها الأثرية المدرجة على لائحة التراث العالمي الإنساني، بعد خوض اشتباكات عنيفة ضد مقاتلي التنظيم المتطرف، في تقدم يعد الأبرز للنظام منذ بدء موسكو حملة جوية في سوريا في 30 سبتمبر.
"سقف وباب"
وكان نحو 70 ألف شخص يقيمون في المدينة قبل سيطرة الجهاديين عليها، لكن معظمهم نزح تدريجيًا ولم يبق فيها إلا 15 ألفًا دفعتهم الاشتباكات في الأسابيع الأخيرة إلى الفرار، ما جعل تدمر أشبه بمدينة أشباح خالية من سكانها.
وبعد جولة سريعة على منزله الذي تحطمت نوافذه وتبدو عليه آثار حريق من الخارج وتمتلئ جدرانه بالرصاص، يقول خضر حمود (68 عامًا) لـ"فرانس برس": "أول ما تفقدته في المنزل هو السقف واطمأنيت إلى أنّه لا يزال موجودًا وإن بإمكاني العودة على رغم الأضرار".
ويضيف الموظف المتقاعد الذي نزح مع أسرته من المدينة قبل 7 أشهر متجهًا إلى مدينة حمص "لا يزال هناك جدران وشبابيك وباب، وهذا كاف لإحضار عائلتي مجددًا إلى تدمر".
وخشية عليها من أن تصاب بصدمة، فضل خضر أو أبو عبدو كما يحلو له أن يعرف عن نفسه، ألا يحضر زوجته معه في الزيارة الأولى إلى تدمر. ويوضح "خفت عليها من شدة الصدمة وأردت أن آتي وحدي لأتمكن من أن أمهد لها عن حالة المنزل".
وقبل أن يهم بمغادرة المنزل، حرص على جمع أقصى ما يمكنه حمله من ألعاب أصغر أولاده مع أغراض بسيطة.
وتظهر صور التقطها مصور لـ"فرانس برس" في المدينة منازل مدمرة بالكامل وأخرى تصدعت جدرانها، بالإضافة إلى شقق ومحال تجارية حولها مقاتلو تنظيم "داعش" إلى متاريس أو وضعوا أكياس الرمل أمامها.
وتجيب أم خالد وهي أرملة ثلاثينية قتل زوجها في بدايات النزاع العام 2011، ردًا على سؤال عن شعورها لدى عودتها إلى منزلها وبلهجة محكية "راح الغالي فلا زعل على رخيص" بعدما تطايرت نوافذ وابواب منزلها.
"ثلاثة أسابيع"
وتشهد المدينة على ضراوة المعارك التي كانت مسرحًا لها في الأشهر الماضية. ويمكن في أكثر من شارع معاينة العبارات المكتوبة على الجدران.
وكتب على أحد الجدران ثلاث عبارات فوق بعضها البعض، الأولى "أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة" وهي أحد شعارات حزب البعث الحاكم في سوريا، والثانية "دولة الإسلام باقية" في إشارة إلى شعار تنظيم "داعش" الذي أعلن في يونيو 2014 قيام "دولة الخلافة" في مناطق سيطرته في سوريا والعراق. أما الشعار الثالث الحديث الكتابة فجاء فيه "الله محيي الحرس الجمهوري"، في إشارة إلى فرقة نخبة تابعة للنظام السوري.
وبحسب مراسل "فرانس برس"، لن يتمكن سكان تدمر من المبيت في المدينة التي نفذ عناصر الجيش السوري انتشارًا كثيفًا في أحيائها، تزامنًا مع مواصلة قوات روسية متخصصة في مجال نزع الألغام عملها على أطراف المدينة السكنية وفي المدينة الأثرية.
وقال مصدر في محافظة حمص لـ"فرانس برس": "لا يمكن للسكان الآن المبيت في المدينة بسبب عدم توفر الماء والكهرباء واستمرار عملية إزالة الألغام".
وأضاف "نحتاج إلى 3 أسابيع على الأقل لإعادة تأهيل البنى التحتية بشكل أولي ويمكن حينها للسكان العودة والمبيت داخل منازلهم في المدينة".