الأقباط متحدون - عُشُّ السّنونو
أخر تحديث ٠٤:٥٧ | الأحد ١٠ ابريل ٢٠١٦ | ٢برمودة ١٧٣٢ش | العدد ٣٨٩٤ السنة التاسعة
إغلاق تصغير

عُشُّ السّنونو

  زهير دعيم
المساء هو المساء!فبالأمس فقط أحببتُ هذا الشارع المضيء في قلب المدينة , وأحببت ألنأمة الصادرة عن كلّ عابر تحت شُرفة بيتي...وعشقتُ تلك الظلال البعيدة المُمتدة من شجرة صفصاف عتيقة .

  لستُ انكر أن هذا العشق جاء مُتأخرًا ، فالقرية تُعشّش في كياني ووجودي , ..أبدًا أحببتها وذُبتُ جوىً بزيتونها وبيدرها وطابونها وإنسانها،ولكن الأيام مرهم للجرح تداوي وتكاد تُنسيكَ ملعب الصِّبا وعروسًا بريئة تحمل اضمامةً من حبق وتركض خلف النورج.

  الأنوار هي الانوار ، والشّارع هو الشارع نفسه والشُّرفة ذاتها ،فما بالي أرى الشارع باهتًا هذه المرّة والمارّين غُرباء والظلّ شبحًا .

  أطفالي في الغرفة الاخرى يسرحون ويمرحون ، أكاد اسمع فُتات كلماتهم ...سأقفزُ غدًا على ظهر جدّي ...لا سأقفزُ أنا وسيحملني معه الى الوادي ، فتنبري أمل قائلة : "أنسيتم أنني حفيدته الوحيدة  وعلى اسم زوجته، سأكون أنا التي ترافقه في شوارع القرية والفرحة تغمره!!...واتنهّد أنا ...أين حِصتي يا أولاد ؟ ماذا تركتم لي من أبي؟!

  ويظهر أني قلتها بصوت مسموع رنَّ في اذن زوجتي وهي قادمة تحمل فنجانًا من القهوة .

-    هو لكَ يا رئيف مثلما هو لنا ...انه بركتنا

-     ايه...صدقتِ انه بركة كباقي العتاق المنغرسين في الارض ، نعم يا هُدى  صدّقيني إنني أعتزُّ بذاك الجيل الذي لا يعرف غير الحجر والزّهر والشّحرور والشّهامة.

-      والمدينة أين ذهبَتْ ؟
-     سراب ..طِلاء ..كاعب حسناء
-      سامحكَ الله ، انّكَ تتجنّى يا رجل .

-      عُذرًا فربما ما زلْتُ فلاحًا كما كنت من قبل ، كنتُ اتضايق يومها من هذه الكلمة (فلاح)، كنْتُ أمقتها لو تعلمين ،وأتظاهر بالأصالة في التمدّن ، وأتكلّف ما لستُ اتقن !!

وضحكت زوجتي ، امّا أنا فارتشفتُ قهوتي ورحتُ أغوص في ذاتي اسابق الوقت وأتخيّل والدي بسرواله الاسود يُدلّل وُريقات الدالية ، ويُحنّي يديه بتراب الكرم، انّه الأصيل حسب شريعة والدي ....واستفقت على صوت زوجتي ، أين ذهبت ؟ عُدْ لنا .

وكانت البسمة ما زالت مُعلّقة على شفتيها ، ما الذي يُضحكها ابنة بائع الفلافل ، أما زالت تتذكّرني وأنا احاول جاهدًا أن أستعمل السّكّين في أثناء وجبة الغَداء فخانتني يداي!!..تصببت عرقًا وخجلاً وقتها ، ولعنت القرية والفلاّح ومن فيها ، والآن اندم على تلك اللعنة، وعُدْتُ كما كُنتُ "افصفص"الدّجاج بيدي ّ وما عاد يهمّني أن الفت النظر ، بل انني اعتزّ بخشونتي! وليقُل ساكن الشارع المضيء في قلب المدينة ما يقول!!.

  أعرف تمامًا أنّ عهد الطابون في قريتنا قد انطوى منذ زمن بعيد، وانطوت معه أشياء كثيرة ، ولكن الذي لا ينقضي هي شريحة البشر هناك ، فهُم من طينة لا تعرف الخداع والتكلُّف ، بل تطرب للسنونو مثلما تطرب للميجانا، وتسكر من ماءٍ زُلال  سحَّ من مِزراب السطح ، وتثمل من كأس عرق آنس قصاع التبولة !!

  سقى الله تلك الأيام ، جملة ما انفكّ يُردّدها والدي على مسمعي، في كلّ مرةٍ أزوره. ثمّ يتنهّد مُتذمّرًا من هذا الجيل ، الذي نفَضَ يديه من كُلّ شيء مُقدّس ،وترك الثعالب تعيث فسادًا في الكروم . انه يتألم والسنوات تزيد من ألمه ، والحوادث تقضّ مضجعه.

  "لا أرى في الافق وميضًا يا بنيّ " يقولها ودمعة حيرى تترقرق في عينيه ، ويحاول أن يخفيها..    ثم يتابع " رعود أيامنا وثلجها غير هذه الرعود والثلوج يا رئيف ، كانت بركة .

  وأنْفَلِتُ من الذكريات وأعود لفنجاني وشُرفتي والشارع المُضيء الباهت .

                                 ******
لم نكد نصل زيتون القرية حتّى هلّل الأطفال تهليلا ، ورُحت أنا بدوري اتذكّر لهم أسماء المواقع ، فهذه "الخلّة "وتلك "الخِربة"وذاك تلّ الشهيدة , فهناك قبل ستين سنة أطلق الجنود النار على امرأة حامل من الحارة البعيدة ، كانت عائدة من الحصاد حسب رواية أبي .

   وصلنا القرية. وانعطفنا الى الشارع الجانبي الموصل الى بيتنا العتيق والكرم، فلم نقع لأحد على أثر . وراح الأطفال يبحثون عنه فوجدوه غافيا تحت الخروبة الأزلية ، فأيقظوه فقام ضاحكا على غير عادته ، فقد كان يُجن حين يوقظه احد من نومه ..يريد ان يشبع نومًا كان يقول !!

ضحك والدي، ونادرا ما رأيته يفعل ذالك كما يفعل الآن ، ماذا حدث لهذا الفلاح الغليظ!!

 وعانقنا واحدًا واحدًا وقبل حفيدته أمل قائلا ً : " ارى فيك يا أمل،

 أمل الكبيرة الراحلة الى السماء ، ارى فيك تلك التي احتملتني واحتملت العذاب والشقاء ، وماتت وهي تُصلّي لنا جميعا ..

ومر سرب من الطيور المهاجرة فوقنا ، فانشرح صدر والدي وقال انظروا هذه الطيور الجميلة العائدة الى أوطانها ، ألا ترون معي انها جميلة يشدّها الشوق ..ثم امسك بيدي وقادني الى داخل البيت العتيق .....انظر يا رئيف ، منذ ان رأت عيناي النور والسنونو تعشّش على جسر هذا البيت ، وتُربّي صغارها جيلا بعد جيل ، ولطالما أطربتنا الى ان جاء موسم بُعيد وفاة المرحومة امك بأيام,  فلم نجدها ، هجرت العشّ وأضحى الجسر أطلالاً...ومرّت السنوات والسنونو بعيدة ، بعيدة ..الى أن جاء نيسان الماضي فاستيقظت على زقزقة أعهدها ...نعم بنته من جديد يا ولدي ، بنته من جديد وزرعت معه في قلبي أملاً جديدًا ..
 وسحّت دمعتان غمرتا ابتسامته المنحوتة على ثغر التاريخ ..

امّا أنا فعُدْت مع السنونو !!ّ!


More Delicious Digg Email This
Facebook Google My Space Twitter