الأقباط متحدون - صِنَاعَةُ التَّوْبَةِ
أخر تحديث ٠٦:٥٨ | الثلاثاء ١٩ ابريل ٢٠١٦ | ١١برمودة ١٧٣٢ش | العدد ٣٩٠٣ السنة التاسعة
إغلاق تصغير

صِنَاعَةُ التَّوْبَةِ

صِنَاعَةُ التَّوْبَةِ
صِنَاعَةُ التَّوْبَةِ

القمص أثناسيوس جورج
ما دمنا نُخطئ كل يوم؛ إذنْ فلنتُبْ كل يوم ونجدد أنفسنا بالتوبة. فمراحم الله نحونا لا نهائية وتفوق كل تعبير. التوبة علاجها ليس له حدود؛ وخطايانا الكثيرة يقابلها مراحم لا تُعدّ ولا تُحصىَ… خطايانا المتكررة لن تستعصى إزاء صلاح الله اللانهائي؛ إنها تتلاشى أمام رأفاته التي لا تفرغ؛ هي تقودنا لكي نتبرر. وما لا نستطيع عمله؛ الله يستطيع بقدرته وبدم صليبه أن يكمله.

التوبة هي عهد مع الله وتجديد للمعمودية؛ وهي حُكم على الذات؛ بها يتم المصالحة مع الآب وتطهير الوجدان. نعمل مشيئة الله مبتعدين عن شيطان الجولان. نتشبه بالمسيح في أقواله وأفعاله وأفكاره؛ كي ننجو من القصاص العادل بالشفقة الإلهية.

يأتي هو ويدحرج القساوة من قلوبنا ويعتقنا من الحبس والظلمة الخارجية… نُرضي الرب كما يُرضي الجنديُ الملك؛ لأننا سنُطالَب بدقّة عن ثمار توبتنا؛ وعلى قدر كثرة شدة تقيُّحنا تشتد الحاجة إلى التداوي؛ لا نميل يمينًا ولا يسارًا؛ ولا نلتفت إلى الوراء؛ فنرتدّ إلى خلف ونصير عمود ملح بلا حراك… نتوب عن شرنا وضعفنا؛ حتى لا تصير أواخرنا أشرّ من أوائلنا؛ ويعطينا الله نعمته لكي نقبلها ونحرسها. ففي نعمته يكمُن خلاصُنا؛ وهي التي تسند توبتنا وتقودنا إن كنا نُخلص بحق.

بالتوبة نصل إلى كنزنا الذي داخلنا وسُلَّم ملكوته فينا… سائرين بالتوبة؛ لأن الخلاص هو نصيب مَن يسلك حسب قانونها ويُصلح حاله بتوبته. نتوب عن أرواح الكذب والإدانة والطمع والتعظم ومحبة النصيب الأكبر والنجاسة والخبث والرياء… ولا نثق بطين جسدنا مدى الحياة؛ ولا نرتكن إليه حتى نقف أمام المسيح الديان؛ لأن الله لن يأتي بنا إلى الخلاص ضدًا لحرية إرادتنا؛ بل برغبة أنفسنا وتهليل قلوبنا.

صناعة توبتنا تنقذنا من الخطأ وتمنحنا نعيم الملكوت. نتوب عن عبودية الخطية؛ وتكون كل كلمة وكل فعل من معلمنا الإلهي هي قاعدة وقانونًا لنا في التقوى والفضيلة والتجديد يومًا فيومًا؛ حيث يتأسس هيكل الثالوث القدوس في داخل قلوبنا؛ نفعل الأمور الصالحة ويكون الله نفسه هو مُبتغانا.

نجمع زهور روحية تنسج لنا أكاليل سماوية وتنضح ثمرتنا (الزهور ظهرت) و (الطيب انسكب) عندما يجتذبنا المسيح نفسه إليه ويقرِّبنا منه. لا يذكر خطايانا وتعدِّياتنا فيما بعد؛ لأن التوبة الحقيقية هي معجزة شفاء عظيمة… وهي البشارة المُفرحة الجديدة… وهي عملنا الدائم الذي يلازم حياتنا باستمرار… نغيِّر أذهاننا وسلوكنا ونقوم من غفلتنا… هي (حزن مُفرح)… (حزن) الندم على خطايانا؛ و(فرح) رجاء الغفران.

فهي ليست أزمة نفسية إنفعالية؛ لكنها تحوُّل داخلي وروح جديدة؛ نجحد فيها اليأس ونترجىَ حياة مستقيمة. فنحن لسنا في طريق مسدود؛ بل في سعة سكة الحياة؛ ننسى ما هو وراء ونمتدّ إلى ما هو قدام في موقف دائم ما دامت النعمة وافرة والإرادة حاضرة.

حزن التوبة مضيء لأنه حزن بحسب مشيئة الله ” يُنشئ توبة لخلاص بلا ندامة ” (٢ كو ٧ : ١٠). فما التوبة الصادقة إلا حالة (إنسان الحرية)؛ التي تثمر فرحًا وسلامًا وإنفكاكًا من ثقل الخطية وذنبها وعثرتها.

إنه (اختبار) سلوك الحياة والبركة؛ ورفض الموت واللعنة. (اختبار) عمل الإرادة الإلهية من أجل المسرة. (اختبار) عمل الأعمال المرضية أمام الله. (اختبار) دعوة واختيار المُعَيَّنين للحياة الأبدية وللمُمسكين بها؛ والتي إليها دُعُوا. ساهرين صاحين متممين خلاصهم بخوف ورعدة… ملتحفين بنعمة الله المُخلِّصة لجميع الناس… حافظين وديعتهم إلى اليوم الأخير؛ لأن كل من لا يقدم توبة ينال الويلات والتوبيخ والهلاك “إن لم تتوبوا فجميعكم كذلك تهلكون” (لو ١٣ : ٣).

فإن كان الله يتأنّىَ علينا ويتركنا هذه السنة أيضًا؛ فذلك لأنه لا يشاء قطعنا وهلاكنا؛ لكنه يقبل توبتنا ويبررنا؛ ويقبل ثمرنا إن كنا نرجع ونحيا… هو يمكث معنا ويدخل إلينا ويقبل كل من يُقبل إليه… يأتي عندنا ويصنع منزلاً؛ يدخل ويتعشىَ معنا؛ يُقيم فينا ويغفر لنا زلاتنا… كلما نحاسب أنفسنا ونُدرك ضعفنا ثم نقوم لنرجع إليه.

وعندما نأخذ خطوة نحوه هو يأتي إلينا مبادرًا ويستقبلنا ويتحنن على كل راجع؛ يركض نحوه ويُلبسه الحُلة (المعمودية) والخاتم (الميرون) ويدعوه إلى ذبيحته المُسمَّنة (الإفخارستيا) Ευχαριστία ليأكل ويفرح بالوليمة المجانية.

يا لفِعل التوبة المستمر؛ إنه الحدث الفائق الذي نعود به إلى الله ونرجع إليه وتتغير حياتنا مجددًا. إنه سر حلاوة المسيحية في البداية الجديدة – (هَبني يا رب أن أبدأ) – نعرف زيفنا وسقطاتنا ليحل النور محل الظل والظلام؛ وتصير الخطية المتكررة والمحبَّبة مكروهة ومرفوضة بل وغريبة في نور ومعونة جمال المسيح الإلهي. وهي بالجملة معجزة غفران خطايانا وعمل الله المعجزي معنا مثلما مع السامرية والابن الضال؛ نسرع وننزل مع زكا؛ فنلتقي بالقدوس والبار الذي دعانا لنتوب؛ حاملاً خطايانا في جسده على الخشبة؛ وبه نكون أعظم من منتصرين… متحصِّنين بختمه الملوكي الخلاصي العجيب؛ وبعلامة ضمانته المخلِّصة الموسومة لمعونتنا والتي لا تُمحىَ.

ويعتبر الآباء أن التوبة هي برهان التقوى وصدق العِشرة المقدسة مع الآب والمسيح والروح القدس. وبها نختبر الثمار اللائقة التي تفتح إضاءة طريق الملكوت؛ كخطّ ونصيب أبدي في فرح لا يُنطق به… نتوب عن كل شر؛ ولا تسودنا الخطية بسلاح الإنجيل وحلول المسيح في إنساننا الباطن. نجاهد لنضبط أنفسنا في كل شيء؛ وبإصرار نرفض تذكارات الشر ومعقولات إبليس وحِيَله… هو يكرر عمله ونحن نكرر رفضنا “قاوموه راسخين في الإيمان” (١ بط ٥ : ٩).

وبتعب التوبة اليومي لا تعود قلوبنا تتقسىَ عبر أزمنة الحياة وحتى غروب العمر؛ لأن التوبة تُقاس بصدق ميل القلب وحرارته ورغبته؛ وبإدراك مقدار الدَّيْن الذي سامحنا به الله… وإله الفرصة الثانية المتجددة هو إله المستحيلات الذي لا يشاء موت الخاطئ مثلما يرجع ويحيا؛ وهو الفخاري الذي يصيغنا من جديد ويصنعنا آنية كرامة له… يعود ويعملنا وعاءً جديدًا كما يحسُن في عينيه.

توبتنا هي طريقنا ومسيرة نموّنا. قائدها الروح القدس؛ تصل بنا إلى الشبه الإلهي؛ وهي لا تكمل إلا بإستجابة عمل النعمة فينا وبإتمام الوصايا وعدم التأجيل أو الإهمال والتحول للطابع الحسن؛ حسب متطلبات قصد دعوتنا التي بها نكون مرضيين عنده وغير مرفوضين.

وتستمر توبتنا هذه دائمة حتى القبر عندما نربط كل شيء بما يطلبه منا سيدنا وملكنا في الخفاء والعَلَن؛ وفي كل ما يجعلنا مقبولين عنده. متممين عمله الذي يُنشئ فينا إرادة الخلاص والثبات في توبة تستمر (ستين ثانية × كل دقيقة × ستين دقيقة × كل ساعة × عدد سنوات العمر = توبة الحياة وحياة التوبة).

تتفق فيها توبتنا مع عظم إحسان الله تجاهنا؛ فتجعله يتحنن ولا يلاحقنا بغضبه؛ إنما يُدركنا بصلاحه: نطلب الحق / نُنصف المظلوم / نُقضي لليتيم / نُحامي عن الأرملة / نتحاجج معه وهو يسير معنا كل الطريق؛ نمشي له خطوة وهو يقترب نحونا أميالاً ليبيِّضنا كالثلج ويُذيقنا حلاوته ويفتح أمامنا الأبواب؛ فندخل إلى المنازل الكثيرة… وكلما ندخل تنفتح أمامنا أبواب جديدة وتنكشف لنا أعماق العجائب؛ وننال فرح توبة الربيع الروحي… نجني بذار بهحة التحرر من الذنب والمَلامة؛ ونحصد بركات النهوض من السقطة والغفلة.

وكما خلُصت رَحاب الزانية واللص اليمين الذي صار أول مواطني الفردوس؛ ومثل العشار الذي صار إنجيليًا؛ والمجدِّف الذي نال رتبة الرسولية، هكذا نحن نكمل صناعة توبتنا في كل زمان مهما كان هو لنا زمان توبة


More Delicious Digg Email This
Facebook Google My Space Twitter