الأقباط متحدون - قُدَّاسَاتُ اللقَّانِ الثَّلاثَةُ
أخر تحديث ٠٧:١٨ | الخميس ٢٨ ابريل ٢٠١٦ | ٢٠برمودة ١٧٣٢ش | العدد ٣٩١٢ السنة التاسعة
إغلاق تصغير

قُدَّاسَاتُ اللقَّانِ الثَّلاثَةُ

صورة أرشيفية
صورة أرشيفية

(لقان الخميس الكبير)

بقلم: القمص أثناسيوس فهمي جورج
تصلي الكنيسة قداسات اللقان في مسيرة خَطّية طُولية عبر السنة الطقسية الليتورچية؛ وقد حددت ثلاث مناسبات لتصلي هذه الليتورچيات (اللقانات):- في (عيد الغطاس) تذكارًا لمعمودية السيد المسيح في نهر الأردن. وفي (الخميس السيدي) تذكارًا لغسل الأرجل. وفي (عيد الآباء الرسل) تذكارًا لبداية العمل الكرازي؛ على اعتبار أن كل خدمة في الكنيسة تنبني وتبدأ بالمعمودية؛ ثم تنمو وتنضج بغسل الأرجل.

وفي هذه التذكارات الثلاثة يوضع الماء العذب في (فسقية اللقان المقدسة) والتي عادة تكون عبارة عن حوض رخامي أو حجري؛ حيث نعيش خبرة حاضرة لأحداث الخلاص كأيام صنعها الرب نعايشها في ملء الحاضر الليتورچي لأعمال التدبير الإلهي.

ونجتمع في ليتورچية اللقان في مناسبات (عيد الغطاس وخميس العهد وعيد الرسل) لنختبر الشركة والعبادة الجماعية في جو ليتورچي فريد البهاء والورع وفصحية الخدمة الأرثوذكسية؛ التي بها نستقي اللاهوت في صلاة الكنيسة المجتمعة وخدمتها الآبائية الحية؛ التي هي لنا ونحن نقدمها... فعلاً منا لا فعلاً علينا؛ بحيث يكون حضورنا واختبارنا حقيقيين دائمين ينيران حياتنا وينميانها... فبهذا فقط تحقق الليتورچية معناها وفاعليتها؛ على اعتبار أن معيار الصلاة هو معيار العقيدة؛ وأيضًا على اعتبار أن كنيستنا نفسها هي ليتورچيا تحقق الملكوت وتتممه باستحضار ذاك الذي فيه كل الأشياء تنتهي؛ وكل الأشياء تبدأ.

فنخاطب الله الحاضر معنا والمحتفَى به ونناديه أيها الرب الإله ضابط الكل/ معطي الرحمة/ الذي يعطي مواهبه ورحمته بغنًى/ الذي جعل السحاب ممشاه/ وجمع المياة بيده العزيزة/ ووزن الجبال وقاس السماء بشبره والأرض كلها بقبضته/ الذي جمع المياة إلى مجمع واحد وجعل لها حدًا/ الذي إلتحف بالنور كالثوب/ الذي اشتد بمئزرة وغسل أرجل تلاميذه/ الذي صيَّر الينابيع أنهارًا بإرادته/ الذي خلق الكل من لا شيء/ المعطي الحق وعظم الغنَى ومحبة البشر... ثم نصلي إليه صلوات الأواشي التي فيها نضع أنفسنا وكنيستنا وإخوتنا وكَوْننا وعالمنا كله أمامه.

لذلك؛ قداسات اللقان ليست مجرد مناسبات طقسية يكتنفها الغموض؛ لكنها موضوعة بإلهام آبائي؛ وقد تحددت وجهة سيرها وبوصلتها... وهي مُعلَنة منذ البداية؛ كرحلة إلى الملكوت عبر بركات أنوار الغطاس وغسل الأرجل والكرازة الرسولية... لهذا حضورنا بفهم ووعي عميق ومشاركة يبلغنا مضمونها الحي ومقصد إرتكازها... كعمل الكنيسة كلها جسد المسيح الكلي (رأس وجسد)، اجتماع وفعل معايشة لسر المسيح وخلاص العالم (إعلان جماعي كنسي) مؤسس على النظرة اللاهوتية للزمن.

وفي قداسات اللقان نجد المعاني السرائرية التي تربط بين الكلمة والسر في واقعيتها الروحية؛ بإعلان الكلمة الإلهية في النبوات والقراءات المناسبة لكل حدث... والتي تدعونا لمعايشة تذكار الحدث بحسب منهجيته؛ عندما نصغي إلى الكلمة الممنوحة والتي تثمر فينا بالعبادة، بجمال روحي غير مألوف وفرح غير مألوف؛ كخبرة روحية لخيرات أبدية نقتنيها كما تمتع بها الأولون... حياة ملأىَ بالحياة، والخليقة كلها رمزًا وسرًا وخبرة لحضور الله إلهنا (حياة حسب الروح).

الماء في اللقان يمثل المادة التي هي إشارة إلى العالم وحضوره؛ على اعتبار أن الماء يشكل المادة الأولى والعنصر الأساسي والأوَّلي للعالم... وهو الرمز الطبيعي للحياة؛ لأنه لا حياة من دون ماء؛ وهو أيضًا رمز التطهير، لأنه لا نظافة من دون ماء؛ وحتى خلق الحياة في سفر التكوين أتى بمثابة تحرير للأرض اليابسة؛ وهي عبارة عن إنتهاء اللاموجود (العَدَم) ونهاية للأرض الخربة؛ عندما تحوَّل الماء إلى حياة... ذلك الماء الذي قدسه سيدنا وملكنا المسيح؛ عندما إقتبل معمودية يوحنا؛ فجعل المياة مياة مصالحة؛ بعد أن بسط النعمة وأظهر لاهوته بالتعميد.

فلما خرج يسوع من المياة حدث الظهور الإلهي (الثيؤفانيا)؛ وصارت هذه المياة مياهًا مُحيية؛ أبصرت الله ففزعت؛ وارتعدت اللجج وانسحقت التنانين من أجل رِعدة إله المجد، المياة تطيع خالقها... مياة مختارة مُطهَّرة منقاة تنتشلنا وتُجددنا وتُطهرنا... مياة ممنوحة نعمة الأردن، التي تقدست مجاريها بنزول الروح القدس عليها من السماء... مياة تجدد الطبيعة التي بُليت بالخطية... مياة تُغرق الخطية وتمنح الذين يستعملونها بكل نوع، والذين يلمسونها ويشربون منها أو يغتسلون فيها طهرًا وبركة ونقاوة وخلاصًا.

لقد إرتسم فعل مباركة الماء في التراث الليتورچي وفي قانون عبادة الكنيسة، عندما يستعيد الماء المقدس من خلال البركة ورشومات التقديس والأواشي وظيفته الخاصة... ويُعتلَن كماء حق؛ وكملء؛ وكمادة بركة ووساطة شركة مع الثالوث القدوس. حقيقة أن الإلمام بتقوانا الليتورچية يجعلنا نعرف ونوقن ونعيش فكر الكنيسة الرسولي؛ وننال بركات العبادة المُعطاة لنا بالمجان.

مياه مقدسة طاردة للأمراض مُخيفة للشياطين؛ مُشفية للأوجاع؛ مملوءة من القوات مقدِّسة للبيوت؛ نافعة لكل فائدة؛ تطهر إنساننا الداخلي بثمرة السر؛ وتُبطل القوات المضادة المقاتلة لنا؛ وتنتهر الأرواح النجسة والسحر وعبادة الأوثان بفعل الصلاة والتقديس بشعاع النعمة الإلهية المملوء من الروح القدس؛ الفاعل في هذه المياة المختومة بختم الخلاص؛ وبقوة الله غير المرئية المملوءة من مجد اللاهوت. لذلك كل مَن يغتسل منها يستحق مغفرة الخطايا وعدم الفساد والموهبة السمائية ويُكتب اسمه في سفر الحياة مع المختارين.

ويعلمنا الآباء أن نعطي النصوص الليتورچية والقراءات والرموز كل الأهمية؛ وأن نُمعن النظر في صلاتنا بالتأمل والسكون وإنفتاح القلب؛ لأن العريس حاضر معنا؛ وإن كان غير منظور، نحصر أذهاننا كخيط يلف حول حزمتنا الروحية بإحكام؛ لتكون عبادتنا مسكوبة أمامه ضمن شركة الجموع؛ مغمورة في لُجّة الحب والمراحم الإلهية؛ عندما نطلب الرحمة مئة كيرياليسون في كل لقان؛ ونحن مُطعَّمين في الله؛ متذكرين أننا بالمسيح إعتمدنا عندما كنا أطفالاً.

وكانت نعمة المعمودية جوابًا إلهيًا لا على طلبنا الشخصي بل على إيمان من قدمنا للمعمودية (الإشبين)؛ وعلى إيمان الكنيسة التي ضمتنا إليها... فكأنها كانت نعمة مشروطة؛ ومِن الواجب علينا؛ وقد كبُرنا وغدونا مدركين؛ أن نُثبت معموديتنا بإختيارنا إياها اختيارًا حُرًا، ولعل قداسات اللقان فرص ذهبية متاحة لنا بالروح لنتحرك إلى ما هو قدام إلى الأمام نحو الفخاري الإلهي؛ ليضع يده ويصنع منا أوعية جديدة كما يحسن في عينيه؛ آنية كرامة لا هوان؛ يشكلنا مرة أخرى على دولابه؛ ويُعيد صياغتنا لنكون حسب مجده الأصلي.

وفي هذه القداسات تكون عبادتنا عيدًا شاملاً لكل كياننا وتعبيرًا عن موقفنا الكلي نحو الله؛ عندما يحضر في الزمان والمكان ويجعل الكل جديدًا كما في الأصل؛ حيث تتجدد الخليقة وتتقدس؛ ويتقاطع التاريخ والزمن مع الأبدية لتحقيق مشروع خطة الله الأزلية للخلاص.

ويقول أفلاطون (بداية الحكمة هي أن تشعر بإحساس الدهشة). وحقًا عظيمة هي أعمال الله التي صنعها بحكمة؛ وقد إمتلأت الأرض من غناه (مز ٢٤:١٠٣).

وعندما نرى المدلول الكوني الشامل في تقديس ومباركة المياة. وبلُغة تصويرية نعاين تطهيرنا وتقديسنا بالماء المقدس الذي جاء السيد الرب ليقدسه لنزوله إليه مع كونه وحده بلا خطية... في معمودية المسيح ليست المياة هي التي تقدس المسيح؛ بل المسيح هو الذي قدسها؛ وهو بهذا يمنح التقديس للخليقة المادية كلها ويشفي العالم الساقط والمشوَّه؛ مُحققًا حضوره منذ الآن وإلى دهر الدهور.

www.ixoyc.net
www.frathanasiusdublin.com


More Delicious Digg Email This
Facebook Google My Space Twitter