بقلم : الأنبا إرميا | الثلاثاء ٣ مايو ٢٠١٦ -
١٦:
٠٤ م +02:00 EET
الأنبا إرميا
يحتفل أرثوذكس العالم اليوم بـ«عيد القيامة» المجيدة، فكل عام والجميع بخير، مصلين أن يعم الخير والسلام والفرح على بلادنا «مِصر»، ويُعطى مَِنطَِقة الشرق الأوسط الهُدوء والاستقرار، وكذٰلك كل بقعة ملتهبة فى العالم. إن «القيامة»، يا إخوتى، تحمل للبشرية عددًا من الرسائل، إلا أن أعمقها هو رسالة الخُلود. فمنذ أن بدأ التاريخ يخُط أسطره الأولى، وهو يحدَّثنا عن البشرية التى خاضت قضية الموت وحاولت السعى نحو الخُلود، فى محاولات لم تتوقف من أجل الحياة. ثم جاءت «القيامة» لتحمل للإنسانية نبض الحياة الدائمة والخُلود.
وقد نادت الأديان بفكرة «القيامة والخُلود»، إذ هما هبة من الله الذى خلق الإنسان على صورته ومثاله: فنجد تلك الصورة واضحة عند «اليهود» حين قالت «مَرثا» للسيد المسيح عن أخيها «لعازر» المتوفَّى حديثًا: «أَنَا أَعْلَمُ أَنَّهُ سَيَقُومُ فِى الْقِيَامَةِ، فِى الْيَوْمِ الأَخِيرِ». وفى «المَسيحية»، كثيرًا ما تحدث السيد المسيح له المجد عن خُلود الإنسان وقيامة الأموات، مثلما قال للصَّدوقيِّين الذين لا يؤمنون بقيامة الأموات: «وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الأَمْوَاتِ إِنَّهُمْ يَقُومُونَ: أَفَمَا قَرَأْتُمْ فِى كِتَابِ مُوسَى، فِى أَمْرِ الْعُلَّيْقَةِ، كَيْفَ كَلَّمَهُ اللهُ قَائِلًا: أَنَا إِلٰهُ إِبْرَاهِيمَ وَإِلٰهُ إِسْحَٰقَ وَإِلٰهُ يَعْقُوبَ؟ لَيْسَ هُوَ إِلٰهَ أَمْوَاتٍ بَلْ إِلٰهُ أَحْيَاءٍ. فَأَنْتُمْ إِذًا تَضِلُّونَ كَثِيرًا!». وفى «القرآن»، نجد: ﴿يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَٰنُ وَقَالَ صَوَابًا﴾.
وفى «القيامة»، سوف يجازى الله ـ تبارك اسمه ـ كل إنسان بحسب عمله. وهٰكذا أصبحت حياة الإنسان بما تحمل من أفكار وسلوك وقرارات هى مسؤولية ملقاة على عاتقه، فيُدرِك أنه سوف يقدم عنها حسابًا يوم الدينونة. إلا أنه على مر العصور، قد ظهرت رغبة كثيرين فى الهروب من تحمل هٰذه المسؤولية، بل تجرأت فيما بعد إلى إلغائها تمامًا من خلال إنكار وُجود الله والقيامة وخُلود الإنسان!
لقد اعتبر المُلحدون أن هٰذه الحياة «تافهة وبلا معنًى»، حتى إن «سارتر» قال عن الوُجود: «إنه تافه»!! وقد يكون المُلحدون قد استطاعوا إقناع أنفسهم بما يؤمنون به، أو ما يرفضونه من إيمانيات، ولٰكنهم لم يستطيعوا إيجاد حل لمشكلة «الموت»، فقد كان دائمًا سؤال يتردد فى أذهانهم: ماذا بعد الموت؟ ولم يستطيعوا أن يتخطوا رهبة هٰذا الموت.
المُلحدون والموت
لم يُخفِ الملحدون ازدراءهم بالدين وفكرة وُجود الله، ملقين بالاتهامات على المؤمنين بأنهم مغيَّبو العقل، فيقول «كارل ماركس» الفيلسوف الألمانيّ والاقتصاديّ مقولته الشهيرة: «الدين هو أفيون الشعوب»! لٰكنه صُدم عند موت ابنه، وكتب إلى أحد أصدقائه يقول: «لقد هزنى موت ابنى هِزة عنيفة، وإنى أشعر بفقدانه كأنما حدث ذٰلك أمس فقط. أمّا زوجتى، فقد انهارت تمامًا تحت وِطأة الضربة القاصمة.». أمّا «توماس باين» المفكر الإنجليزيّ الذى هاجم الدين فى مؤلَّفه «عصر العقل»، فقد قال فى لحظاته الأخيرة: «آه! إنى على استعداد أن أدفع جميع ما أملِك فى سبيل سحب كتابى «عصر العقل»! آه يا رب! ساعدني! إنه الجحيم بعينه أن تتركنى وحيدًا!».
و«يميلان ياروسلاڤسكي» أحد مساعدى «استالين»، وهو أيضًا زعيم منظمة «المناضلون الملحدون» أو «المتشددون الملحدون»- فيما بعد تغيرت إلى «اتحاد المحاربين المُلحدين»، التى أسسها الحزب الشُّيوعيّ لمحاربة الدين والقضاء عليه، وكان شعارها: «النضال ضد الدين هو النضال من أجل الاشتراكية»، قد قام بالكتابة فى الصحف والمجلات، ونشَر الكتب التى تسعى لإقناع مواطنى «الإتحاد السوڤيتيّ» السابق بخطإ المعتقدات والممارسات الدينية وضررها. ولم يُوقِف نشاطه على «الاتحاد السوڤيتيّ» بل امتد إلى خارج البلاد، وقد وصف المهام الملقاة على عاتق المنظمة فى أحد المؤتمرات فقال: «من واجبنا تدمير كل المفاهيم الدينية فى العالم!!... وإذا كان تدمير عشرة ملايين من البشر- كما حدث فى الحرب الأخيرة- ضروريًّا لانتصار طبقة محددة، فلا بد من القيام بذٰلك، وسوف نقوم به فعلًا». يُذكر عن «ياروسلاڤكسي» أنه صرخ وهو على فراش الموت، فى حضور «استالين»، قائلًا: «أحرِقوا كل كُتبى. اُنظروا: إنه هنا ينتظرنى... أحرِقوا كل مؤلفاتى».
أمّا الكاتب الفرنسى «ڤولتير»، فيُذكر أنه قُبيل موته بأشهر معدودات، كان يعانى تبكيت الضمير، وكتب إقرارًا يرفض فيه الإلحاد والمُلحدين، وقال للمُلحدين الذين كانوا حوله: «اذهبوا... انصرفوا... ما أحقر المجد الذى جلبتموه لي!»، وكان يلتمس الرحمة أحيانًا، فيقول: «لقد هجرنى الله والبشر، وليس أمامى سوى الجحيم...»، وكان يطلب الرحمة من الله، وفى أوقات أخرى يثور ضده!! وذات يوم قال لطبيبه: «إننى على استعداد أن أمنحك نصف ما أملِك، إن جعلتنى أعيش ستة أشهر». فأجابه الطبيب: «يا سيدى، لا يمكنك أن تعيش ستة أسابيع»، فحينئذ قال «ڤولتير»: «سوف أذهب إلى الجحيم»، ثم مات بعد زمن وجيز. وتقول ممرضته: «ولو أعطِيتُ كل أموال «أوروبا»، لا أريد أن أرى موت شخص ملحد يعانى مثله! لقد كان يصيح طوال الليل طلبًا للمغفرة».
نموذج آخر هو «فرانسيس نِيوبُرت» رئيس «نادى المُلحدين البريطانيِّين»، الذى صرح عند موته قائلًا: «لا تقولوا لى: لا يوجد إلٰه، فأنا الآن فى حضرته! ولا تقولوا لى: لا يوجد جَهنم، فأنا الآن أشعر بأنى أنزلق فيها تعِسًا! لا تتحدثوا، فأنا الآن أضيع! إنها النار... وإن مضت ملايين السنين، لَما تخلصتُ من عذابها!! آه! آه! إنها النار!». وبالمِثل مات «أنتون ليڤي» مؤسس عبادة الشيطان مؤلف كتاب «العبادات الشيطانية»، وهو يصرخ: «ماذا فعلتُ؟! لقد ارتكبتُ خطأً جسيمًا!»، وكان يطلب الصفح والغفران من الله.
وفى المقابل، عاش آخرون محتملين مسؤولية الحياة، مقدمين حياتهم للخير والعطاء، فصارت «القيامة» لهم تلك السعادة التى لا تنتهي، فالسماء هى ذٰلك المكان الرائع الذى لم يستطِع إنسان تخيله أو إدراكه، حتى إن القديس «بولس الرسول» لم يجد كلمات تصفها فقال: «مَا لَمْ تَرَ عَيْنٌ، وَلَمْ تَسْمَعْ أُذُنٌ، وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى بَالِ إِنْسَانٍ: مَا أَعَدَّهُ اللهُ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَهُ»، وهٰكذا تفتح «القيامة» بابًا للرجاء والأمل لكل نفس استخدمت هبة الحياة المقدَّمة لها لأجل أعمال صالحة وأهداف سامية، فصارت حياتها نورًا يقتدى به كثيرون، وحبًّا متجسدًا نحو الإنسانية. وأنا لا أتكلم عن العباقرة، أو من حققوا الإنجازات، بل عن كل نفس بسيطة حملت الخير فى أعماقها وقدَّمتْه فى أعمال يراها كثيرون أنها عادية لكنها تؤثر بشدة فى حياة كثيرين وتُسعد قلوبهم الحزينة: كابتسامة فى وقت يشعر فيها الشخص أنه مرفوض، أو تشجيع وسْط ألم إحباط قد يحطم سفينة الحياة، أو نصيحة تساعد شخص فى المضى قُدمًا فى طريق الحياة.
وفى إيمان الإنسان بـ«القيامة» والخُلود، يُدرِك أن الحياة هى رحلة تبدأ من الميلاد وتعبر جسر الموت بلا نهاية، فيملأ حياته بكل خير وصلاح، مقدِّمًا الأمل والسعادة للكل.
و... وفى مصر الحلوة الحديث لا ينتهى!
*الأسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأُرثوذكسى
نقلا عم المصرى اليوم
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع