الأقباط متحدون - «سناء البيسى».. وخريجة «الفيس بوك»
أخر تحديث ١٦:٥٠ | الاربعاء ٤ مايو ٢٠١٦ | ٢٦برمودة ١٧٣٢ش | العدد ٣٩١٨ السنة التاسعة
إغلاق تصغير

«سناء البيسى».. وخريجة «الفيس بوك»

عاطف بشاى
عاطف بشاى

«أنا قديمة يا محدثة معرفة»؟!.. أنا قديمة يا خريجة «الإنترنت» و«الفيس بوك».. وجميع وسائل التواصل؟!.. أنا قديمة فى نظرك أنت ومن وقع اختيارهم على شخصى «القديم» للتفضل بتكريمى وتشييعى بتصفيق مختصر قبل ما أنكفئ على وجهى من فوق سلالم المنصة الماسية.. وفى يدى شهادتى بـ«قرار» التكريم لأنى قديمة بغض النظر عما قدمته للصحافة على مدى نصف قرن وزيادة.. ربما لأننى القديمة التى يلحقون بأنفاسها الأخيرة فقد ينسحب التكريم أيضاً بتكفينى داخل تابوت مبطن بالستان المكشكش أو حرقى رماداً داخل زلعة أو زجاجة مع دفن أشيائى معى كحفيدة فرعونية ليوم البعث».

هذه الصرخة الملتاعة المصحوبة بغضب موجع.. وأسى شفيف.. والمبطنة باكتئاب انفعالى متفلسف ينعى وجودنا نحن القدماء.. فى ذلك الزمن الضنين.. أطلقتها المبدعة القديرة العزيزة «سناء البيسى» فى مقالها الأخير بالأهرام بعنوان «قررنا التكريم لأنك قديم».

وسبب تلك الصرخة أن شابة «مبرمجة» على برنامج حفل اتصلت بها تليفونياً-واستقبل مكالمتها نجل الأستاذة- لتبلغها بقرار تكريمها فى مناسبة ماسية.. والشهادة باسمها فى انتظارها ممهورة بإمضاء سيادة النقيب.. ولا بد من حضورها شخصياً لاستلامها فوق المنصة عند النداء عليها حيث سيتم التصوير بالعدسات المستدعاة.

تقول «سناء» إن البنت أوضحت لابنها أن سبب التكريم ليس والحمد لله فى إطار الأم المثالية التى شبعت من شهاداتها وأطباقها الصفيح.. والتى لا يأتيها أى تكريم إلا داخل نطاقها.. ولكن يعود التكريم إلى أنها ست «قديمة».

تسخر الأستاذة فى حسرة وتلوم نفسها لأنها لم تدرك فى السنوات السابقة حجم مأساتها المقبلة فقد كانت.. «السكينة سارقاها» فى دوامة العمل المضنى المتواصل وكانت بين الشباب لا تعيش عمرها «واختلط بى العمر واختلط بأعمارهم عمرى».

«هل ذنبى أننى اخترت مهنة لها آخر يقولون فيها عنى إننى قديمة؟!.. وقد كان ظنى أن الصحافة مجال شباب علطول ملوش آخر.

ثم تسرد بعض تفاصيل رحلة العمر الشاقة حيث كانت تعمل فى خلية عمل تمتص رحيق الأخبار والأنباء والأصداء.. والأهوال والأفراح والأتراح والأسفار والأحوال فى عوالم الكبار والصغار لتصوغها وترسمها وتصبغها بآرائها وأفكارها وتأملاتها.. تبحر فى مغزى الحروف.. وجمال البيان والبديع للكلمات ذات المرادفات الرشيقة.. وألق السبك البراق.. وتدفع غالياً ثمن مواقفها وتبعات إصرارها على أمانة وصدق ما تعتقده.. وتتوق إلى تجسيد أحلامها فى غد أكثر إشراقاً وأعظم رقياً يستحقه وطن مثخن بالجراح.. وتشير إلى أن أمراض المهنة المزمنة.. صداع وأرق وقلق.. «وقلوبنا راحتها السكتة تؤجلها بتغيير التاجى والأورطى وروافدهما.. ومنزلتنا الإنعاش.. وصداقتنا مبتورة.. وروابطنا الاجتماعية مشفرة».

هل ذنبها أنها شمرت عن ساعد الجد وغرقت فى بحور العمل.. بينما كانت هناك حمامات سباحة يغطس فيها غيرها «بالكاش مايوه»؟!.. هل ذنبها أنها كانت ترساً فى آلة معاناة.. تدخل مكتبها والشمس تفرش خيمة السماء فتولع الأرض ناراً وتعود لتسدل على وجهها أستار السحب فيصبح وجه الأرض ثلجى الرياح.. فلا تخرج وزملاء مهنتها المرهقة من الجب إلا بعد مالا شمس ولا قيظ ولا رعشة برد فالمساء مع نخالة البدن المتهالك لا يجابهه إحساس بتعاقب الفصول.

قديمة؟!.. إنه تعبير قاس كأنه السوط.

■ ■ ■
تذكرت موقفاً مشابهاً كنت أحد أطرافه حينما عرفنى منتج «قديم» فى مكتبه على مخرج «شاب» رحب بالتعاون معى.. مردداً وهو ينهض متعجلاً أنه ينتظر منى معالجة سينمائية لفيلم كوميدى يصلح أن تقوم ببطولته نجمة شابة.. وعلىّ أن أرسل له المعالجة على الإيميل الخاص به».. وأنه سوف يتحدث مع النجمة فى هذا الشأن اليوم فهو على موعد معها (للتهييس).. ثم انصرف مسرعاً وهو يردد محيياً: قشطة.. فرد عليه المنتج: نعناع.. ثم نظر إلىَّ فوجدنى فاغر الفاه فى دهشة بالغة فبادرنى متسائلاً: مالك؟.. قلت له: كيف وصلت الوقاحة وسوء الخلق أن يصارحنا هذا الولد النزق بهذه البساطة أنه على علاقه جنسية بالنجمة الشابة؟!

انفجر المنتج فى الضحك ساخراً.. ثم ردد موضحاً أن كلمة «التهييس» التى قالها المخرج الشاب لا تعنى أنه ذاهب لمضاجعتها -وليعوذ بالله- بل تعنى «الدردشة البريئة» وهى كلمة معروفة وشائعة فى قاموس اللغة الجديدة للشباب.

قابلت المخرج الشاب فى كافيه فبادر بطلب فطيرة التفاح بالقرفة مع «أيس كريم بالفانيليا وكريب أوفريز وكريم كراميل مع المزخرفات وعصير فراولة» دفعت صاغراً ثمنها.. ولما سألته عن رأيه فى المعالجة الدرامية التى كتبتها قال بامتعاض وتأفف: «اقلب اليافطة».. «حنكوشة فى الأوبليه».. فلما استفسرت منه عن معنى تلك الكلمات.. أفهمنى أن المعالجة لم تعجبه فهى «معقدة.. حنجورية.. مليانة أفورة» وكان أولى بى أن «أستقرب».. و«أقلب».. والحياة مش مترجمة.. ومش حابكة (عرفت فيما بعد أن تلك العبارات تعنى الدعوة إلى الاستسهال والركاكة أو بالعامية (ما تحبكهاش وعدى الليلة).. ثم صدمنى بذلك اللفظ الذى صدم الأستاذة «سناء البيسى» قائلاً: الضحك مش كده دلوقتى «يا معلم».. انت «قديم».. ثم أعطانى شريطاً لآخر أفلامه لكى أشاهده وأقتدى به عند الكتابة كنموذج للسينما الكوميدية المعاصرة شاهدت الفيلم الذى يفتقد كل عناصر البناء الدرامى.. فهو مجموعة من الاسكتشات الفجة التى لا رابط بينها.. شخصيات تافهة.. وحوار ركيك يحتشد بألفاظ بذيئة.. مواقف سطحية تخاصم العقل وتعادى المنطق.. رخص وتدنٍ وقبح.. وانحطاط.

ويأ أيتها المبدعة الرائعة «سناء البيسى» لا تغضبى.. إن ما صدمك فى لفظ «قديمة» لا يعنى كما كتبت تشبهينها «كما لو أنهم يقومونك من على الأكل.. يخلعوا ضرسك بلا حقنة بنج.. يفزعوك من عز نومك.. يشيلوا من تحتك الكرسى وانت راجع.. يقلعوك جزمتك وانت فى الشارع.. يحدفوك من فوق كرسى الكوشة ويزغردوا لغيرك.. يلعنوك مفيش بكره وانت بتقلب النتيجة.. يمدحوك من باب الغزل الثقيل إن دبلت الوردة ريحتها فيها.. بل تشى اللفظة أن لغتهم الجديدة قد اخترعوها ليغطوا جهلهم وتدنى مستوى تعليمهم الذى لا يسعفهم باختيار تعبيرات مناسبة.. فالفتاة التى حدثت الكاتبة الكبيرة عاجزة عن استبدال الكلمة بـ«مرموقة» أو «قديرة» أو «مخضرمة» أو «محنكة» مثلاً.. وإلا ارتبكت وتهتهت وثأثأت وفأفأت.. إنهم إذن سعداء بجهلهم وجهلهم سعيد بهم.. ناهيك عن فظاظة وغلظة وفجاجة مشاعر متحجرة نفعية.. إنه عصر انقلاب السلم القيّمى.. وانهيار مستوى الذوق والأدب واللياقة.. ومفاهيم زماننا «القديم» الفصيح.. زمن الحلم والدهشة.. والتأمل.. والحكمة والإبداع والجمال والمعرفة.
نقلا عن الوطن


More Delicious Digg Email This
Facebook Google My Space Twitter
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع