لأنهم جهلاء لا يعلمون عن تاريخهم الأسود شيئاً، لم يتعلموا من جرائمهم ومصائبهم شيئاً مفيداً.. لم يستخلصوا حكمة ولم يكتسبوا من التجربة أى نوع من الخبرة.. فاقدو البصيرة ومحدودو العقل، لا تطور ولا إبداع منذ الأربعينات والخمسينات مروراً بالستينات (وما أدراك ما الستينات)، ووصولاً إلى يومنا هذا. هم كما هم، نفس الأسلوب والعقلية.. قطيع يسير خلف رؤوس الإجرام مغمض العينين مغلق الأذنين أعمى القلب.. لا حول لهم ولا قوة، وما زالوا يرددون فى ثقة أن «مرسى راجع». وبقدر ما يثيرون بداخلنا الغثيان بأفعالهم المشينة يثيرون الشفقة بسبب هذا التسطيح العقلى غير المسبوق.. قرروا، بعد أن جاء الحكم الأخير لينذر بعدد من أحكام الإعدام، أن يحرقوا مصر.. هكذا ببساطة. ولأننا شعب بركة وماشيين بالبركة ودعاء الوالدين والجدعنة فقد أصبحت الأسواق الشعبية لدينا (وهى مكدسة بالمفروشات والملابس والأقمشة وبين المحلات يفترش الباعة الجائلون الأرض) أنسب وأفضل وضع لإشعال الحرائق. وعلى الشخص المفوّض بالإحراق مجهود بسيط جداً، وقد لا يحتاج لمواد حارقة ولا بنزين ولا سولار، فقط عقب سيجارة مشتعل يلقى على الفرش الذى يملأ أرضية الشوارع والباقى سوف يتحول لرماد فى ساعات قليلة.. فما بالكم وقد توعّد هؤلاء المخرفون بحرق مصر؟!
لم يتنبّه أى مسئول فى المحليات ولا أى محافظ، وما أكثرهم، للتشديد على وجود وسائل دفاع مدنى وأمن صناعى وإلزام كل التجار بإحضار طفايات حريق والتفتيش عليها كل حين، وفى حالة عدم وجودها يُلغى ترخيص المحل.. بسيطة وسهلة، ولكن ربنا ما يحرمنا من التواكل والدروشة والجهل.. أعطيناهم الفرصة لتحقيق خسائر مهولة فى الأموال والأرواح من تغفيلنا. أما تغفيلهم فهو الأعظم، ومهما دبروا من حرائق، ومهما قطعوا من أرزاق وقتلوا من أناس أبرياء فلن يصل الأمر إلى ما دبّروه فى 27 يناير 1952.. كانت القاهرة أيامها من أجمل عواصم العالم.. بدأت أول حريقة فى كازينو الأوبرا فى ميدان الأوبرا، هاجموا الكازينو وأشعلوا فيه النيران، وعندما جاءت عربات المطافئ أسرعوا بقطع خراطيم المياه لإعاقة عملية الإطفاء، وامتدت الحرائق إلى شارع فؤاد (26 يوليو)، ثم إبراهيم باشا (الجمهورية)، ثم شوارع عدلى وقصر النيل وسليمان باشا وعبدالخالق ثروت وشريف والبستان ومحمد فريد وعماد الدين وشارع نجيب الريحانى والبورصة وميدان التوفيقية والملكة نازلى (رمسيس) وميدان الإسماعيلية (التحرير) وشوارع التحرير والشواربى والفلكى وشامبليون والألفى وكلوت بك والفجالة والظاهر وباب الحديد وشارع محمد على وشارع الأهرام. واستمرت النيران مشتعلة منذ الظهر وحتى المغرب، وكانت حصيلة الحرائق 300 متجر منها كبرى المحلات مثل صيدناوى وشملا وشيكوريل وعمر أفندى، «30» إدارة ومكاتب لشركات كبرى، «117» مكتب أعمال وشقق للسكن، «13» فندقاً منها فندق شبرد ذو الشهرة العالمية وفندق مترو بوليتان وفيكتوريا وغيرها، 40 داراً للسينما وأصحابها مصريون، «8» محلات ومعارض سيارات، «10» متاجر سلاح، «73» مقهى ومطعماً وصالة منها محلات جروبى والأمريكين والمطاعم الفاخرة، «16» نادياً ومنها نادى رمسيس ونادى دار العلوم والنادى اليونانى ونادى محمد على وغيرها من نوادى الإنجليز النادى الشهير «التورف كلوب» بشارع عدلى وقد قُتل فيه تسعة من البريطانيين وبنك واحد وهو بنك باركليز وقد احترق فيه ثلاثة عشر شخصاً من موظفيه وعماله منهم إنجليز ومصريون.. بلغ عدد القتلى 26 شخصاً، والمصابين بالحروق والكسور 552 شخصاً.. ونكبت القاهرة فى هذا اليوم فى عمرانها ما لم تنكب بمثله فى تاريخها.. واختلف المؤرخون وقال بعض رجال يوليو إن الملك فاروق هو الذى أحرق القاهرة، وقال آخرون إنهم الإنجليز، وربما الإنجليز والملك معاً، ولكن برّأ عبدالرحمن الرافعى الملك فاروق والإنجليز وقال إنه عمل محلى قامت به «العناصر الرديئة من الشعب»، وقال آخرون بتورط سفارة لدولة أجنبية فى إحضار سلاح ومواد حارقة وغير ذلك الكثير من التفسيرات، لكن كانت هذه هى أقوال شهود العيان: «إحنا سعاة فى شيكوريل، جرينا وقفلنا المحل، وهما جم على الواجهة الحديد وكسروها بالبلط وولعوا المحل ونفدنا على آخر لحظة، جم على محل «اللدولز الإنجليزى» قلنا لهم ده صاحبه مصرى اشتراه بفلوسه وشقاه قالوا لا ده بيقدم خمرة ورقص وخلاعة وضربوا القزاز بالطوب ودخلوا ولعوا فيه وجات عربية جيب فيها واحد شايل علم أخضر وادى العيال كور صغيرة كده بقوا يرموها جوه المحل تولع بمجرد ما تلمس الأرض، كان فيه واحد راكب عربية ستروين بيدى العيال أوامر عشان يحرقوا.. واحد كان معاه صفارة وماسك علم أخضر ومعاه فى العربية جلاليب قديمة وقزايز بنزين والعيال ياخدوها ويحرقوا المحلات»، وقال صاحب سينما ديانا إنهم «كانوا على وشك إشعال السينما إلا أنهم وجدوا أن كازينو شهرزاد أمامهم فقالوا هنا الخلاعة والرقص والمجون وتوجهوا لإحراقه وتركونى».. ورغم كل هذه الخسائر فإن القاهرة باقية، ومصر كلها باقية، لأن مصر لا تحترق يا من تغرقون فى مستنقع الجهل.
نقلا عن الوطن