كان البعض، ولم يزل، يخلط بين الشريعة المقدسة (القرآن والأحاديث الموثوق بصحتها) وبين الفقه الذى هو إنسانى ويحتمل الخطأ والصواب. والقرآن يحث المسلم على إعمال العقل والبحث، أى التفقه فى الدين.. «فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِى الدِّينِ» (التوبة، 122) ونتأمل النص «نفر من كل فرقة» أى من الجميع.. ومهما تعددت فرقهم. ومن ثم فسوف تختلف الاجتهادات وتتضاد ولا يجوز اتهام أى من أصحابها بغير هذا خطأ كان أو صواباً.. ولا عقاب ولا منع ولا حلال أو حرام. فحتى الكفر بالإسلام أو ما سمى بالارتداد عن الدين الإسلامى اختلف الفقهاء فى التعامل معه، البعض قالوا يعزر ثلاثة أيام، والبعض عاماً، والبعض قالوا يعزر مدى الحياة وحسابه عند ربه. وفى سورة يونس، 99: «وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِى الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ».
وفى عقوبة القتل نجد أن العقل العربى المسلم فى أيام الإسلام الأولى ظل متعلقاً بالأعراف البدوية التى كانت تسود أيام الجاهلية.. ففرّقوا بين الاغتيال والفتك.
فالاغتيال يأتى بأن يخدع الإنسان عدوه ويقتله غدراً. يقال فى القواميس «قتله غيلة» أى بالخديعة، واغتاله أى قتله من حيث لا يدرى. ويقال «غالته الخمر» أى شربها حتى أذهبت عقله.
وعندما طلب بعض المسلمين من الرسول أن يأذن لهم أن يقتلوا أعداء الإسلام الذين يؤذونهم وأن يتم ذلك سراً قال الرسول «الإيمان قيد (أى يمنع) الفتك، لا يفتك مؤمن»، ونزلت الآية «إِنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا (أى الذين آذاهم الكفار) إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ » (الحج، 38) ويتماشى ذلك مع قيم الفروسية فى الجاهلية التى تحتم القتال وجهاً لوجه ولا تقر ملاحقة الهارب. وحتى المسيحيين فى زمن الجاهلية كانوا يواجهون العدوان بهذه التقاليد، فالشاعر المسيحى جابر بن حنى أعلن أن قبيلته لا تسكت على اعتداء ولكن لا تبدأ به. فيقول:
وقد زعمت بهراء (قبيلة أخرى) أن رماحنا/ رماح نصارى لا تبوء إلى الدم
نعاطى الملوك السلم ما قسطوا لنا / وليس علينا قتلهم بمحرم
إنها تقاليد الجاهلية التى تمنع القتل فى الأشهر الحرم.
وحتى فى العلاقات بين مسلمى العقود الأولى من الإسلام كان الثأر القبلى والجاهلى حاضراً، فالرسول إذ هاجر إلى المدينة ناصره وسانده وحماه أنصاره هناك من قبيلتى الأوس والخزرج، وفى غزوة بدر كانت مناصرتهم للرسول عنصراً حاسماً فى هزيمة قريش وقائدها أبوسفيان، وبعدها بعقود أرسل «حفيد أبوسفيان» (يزيد) جيشاً ليؤدب سكان المدينة الذين امتنعوا عن مبايعته، فقتل منهم ألوفاً وأخذوا الإناث سبايا، ويقولون فى كتب التراث إنهم افتضوا بكارة ألف بكر من بناتها، وهنا استعاد «يزيد» النزعة القبلية الجاهلية بأخذ الثأر والتشفى فى المهزوم فصاح شعراً:
ليت أشياخى ببدر شهدوا / فزع الخزرج من وقع الأسل (السيف)
لأهلوا واستهلوا فرحاً / ولقالوا ليزيد لا فشل
إنه ثأر النزعة القبلية الذى تناسى أن الخزرج كانوا يدافعون فى هذه المعركة عن رسول الله.
ونأتى إلى العقوبات الجنائية..
ونقرأ فى سورة المائدة، 45: «وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنفَ بِالْأَنفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ».. إنه تقريباً «كود» العقوبات الذى ورد فى سفر اللاويين فى العهد القديم، لكن القرآن فتح الباب أمام تشريع آخر لعقوبات أخرى تتطور حسب تطور المجتمع واحتياجاته، فقد جاء فى النص كما رأينا «وكتبنا عليهم» وليس «عليكم»، وبهذا انفتح الباب أمام تشريعات أخرى وعقوبات أخرى ما دامت لا تحرم حلالاً أو تحل حراماً. وهكذا فإن عقوبات بنى إسرائيل منذ ثلاثة آلاف سنة سابقة كانت تخصهم وحدهم وليست ملزمة لمن أتوا بعدهم. لكن الآية «أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِى الْأَمْرِ مِنكُمْ» (النساء، 59) قد فُسرت عبر المدى التاريخى تفسيراً منح الحكام (أولى الأمر) طاعة لا يستحقونها. فجعلوا طاعة الله متصلة بطاعة الرسول ثم مرتبطة بطاعة أولى الأمر، بزعم أن طاعتهم أمر إلهى، فكان استبداد أولى الأمر والخضوع لهذا الاستبداد يتبدّى فى بعض أدوات الفقه والتفسير وكأنه أمر إلهى.
ولكن الخلافة كانت إحدى الأدوات التى روجت لذلك.
فالخليفة عند كثير من الفقهاء حاكم مدى الحياة لا يجوز عزله إذا أخطأ أو أهمل أو مارس ظلماً وبطشاً. والمخرج الوحيد لعزله هو أن يعلن بنفسه أنه كافر (الكفر البواح) وهو أمر مستحيل الحدوث. وفى أحيان كثيرة كان القتل هو الحل طمعاً فى موقع الخـلافة المتخم بسلطـات لا حدود لها. (الخلفاء الأمويون كانوا أربعة عشر خليفة والعباسيون اثنين وعشرين والمجموع 36، قُتل منهم 17، فالإخوة وأبناء العم وحتى الأمهات والأبناء شاركوا فى قتل بعضهم البعض عبر صراعات القصر المريرة. وأغلب القتل تم بسمٍّ اكتشفه طبيب لمعاوية اسمه أينال).
• وحاول البعض اللجوء إلى حديث (لا نعرف مدى صحته وإن كان قد ورد فى البخارى): «سيكون بعدى أمراء من غشى (جاء) أبوابهم وصدّقهم فى كذبهم وأعانهم على ظلمهم فليس منى ولست منه» (رواه الترمذى). لكن البعض فى زماننا يتمسكون بفكرة الخليفة الواجبة طاعته فى كل ما يفعل. فحسن البنا قال: «وضعت الخلافة لوراثة النبوة» (ونلاحظ أنه كان يسعى كى يعامَل كإمام وكولى أمر للجماعة. تمهيداً للخلافة).
ونعود إلى الفقهاء الذين أطاعوا الحكام فى كل ما فعلوا وأعطوا أعمالهم الظالمة غطاء دينياً، فابن كثير وجد الحاكم يقتل فقال «إن للقاتل توبة فإن تاب عفى الله عنه وأرضى أهل القتيل نيابة عن قاتله». فلما تمادى الحاكم فى القتل تجاوب معه ابن كثير قائلاً إن «لقاتل المائة توبة». وفى زماننا يحاول بعض رجال الدين التداخل فى كل شىء حتى فى تحديد موقف دينى من الاكتشافات العلمية، البعض يقول «حلال»، والبعض «حرام». وحتى فى المواقف السياسية، فشيوخ هاجموا التطبيع مع إسرائيل عندما رفضه الحاكم ثم عادوا فأيدوه عندما أيده الحاكم. وكذلك الصلح مع إسرائيل عارضوه مع الحاكم ثم أيدوه عندما أراد الحاكم، مستندين إلى الآية، «وإن جنحوا للسلم فاجنح لها». فأصبح رأس المواطن المتابع لهم أشبه بالكرة التى يتقاذفها اللاعبون.
* والحكومات فى بلادنا، وعلى مدى طويل، أخذت من قيم الحداثة بعض آلياتها مثل إنشاء المدارس الحديثة والتعليم المدنى والحديث عن فصل السلطات وعن حكم مدنى ديمقراطى حديث، لكنها لم تأخذ بالديمقراطية الحقيقية التى تعطى للشعب سلطة حقيقية، ولا حتى بالمعانى الحقيقية لما قالت به. وباختصار، تتحقق أطروحة «كينز»: «ليست المشكلة فى تبنى الجديد، وإنما الصعوبة الحقيقية فى التخلص من القديم الراسخ فى أعماقنا».
نقلا عن الوطن