«إذا وُليتم لا تنسوا أن تضعوا خمر السلطة فى أكواب العدل»..
«ليس العدل تراثاً يتلقاه الأحياء عن الموتى، أو شارة حكم تلحق باسم السلطان إذا ولى الأمر، كعمامته أو سيفه.. مات الملك العادل.. عاش الملك العادل. العدل مواقف، العدل سؤال أبدى يطرح كل هنيهة، فإذا ألهمت الرد، تشكل فى كلمات أخرى، وتولد عنه سؤال آخر، يبغى رداً، العدل حوار لا يتوقف بين السلطان وسلطانه»..
تلك هى كلمات لصديق العمر وزميل الدراسة «صلاح عبدالصبور»، ذلك الشاعر الحالم العاشق بلا هدوء أو توقف.. تعرف عليه الكاتب فى فترة دراسته الثانوية بنصيحة من والدته لقراءة «مأساة الحلاج» ووجد الكاتب الأعمال الكاملة له فى مجلد أحمر اللون بمكتبة المنزل العامرة ومن هنا بدأت الرحلة..
لم ير الكاتب فى مأساة الحلاج مجرد إبداع فائق لمسرحية شعرية، وإنما رأى فيها طرحاً فلسفياً واستشراقاً لمستقبل يصوغه مفكر لا شاعر مرهف تخطى بموهبته تصورات جيله، فهى مسرحية ذات أبعاد سياسية تدرس العلاقة بين السلطة المتحالفة مع الدين والمعارضة كما تطرقت لمحنة العقل (لنا فى هذه المحنة حديث آخر)، وعند نشرها عام 1966 أثارت الجدل، بل والتوتر فى أوساط عدة بسبب نبوءتها بهزيمة 67، إذ مثلت صوتاً خارجاً عن السرب فى مرحلة كان فيها الأدب العربى وصحافته المتلفزة والمذاعة والمكتوبة يعيش أحلامه القومية مع المد الناصرى، وكانت الصيحات أو الصرعات السائدة هى تموز وأساطير البعث الفرعونية والفينيقية والبابلية، فكان «عبدالصبور» وجهاً آخر من هذه الموجة الثقافية من خلال شخصية «المنصور بن حسين الحلاج» المتصوف الذى عاش فى منتصف القرن الثالث الهجرى والذى اتهمه البعض بالزندقة والكفر وادعاء الألوهية بل والحنبلية أحياناً والتشيع أحياناً أخرى، فيما ذهب رهط آخر باتهام النظام الحاكم بتسييس دعواته وأفكاره وإلباسها الباطل حتى تمر فكرة إعدامه وصلبه بلا ثورات وبلا احتجاج، فقد لاقت أفكاره قبولاً واسعاً واجتذبت دعوته الكثير من الفقراء والمقهورين وتحولت إلى قوة تقض فراش الحاكم آنذاك.
لماذا اختار عبدالصبور هذه الفترة الزمنية تحديداً؟!
الثابت تاريخياً أن القرنين الثالث والرابع الهجريين حفلا بمظاهر شتى من الصراع الاجتماعى والقومى والدينى، بل ويمكن أن نسمى القرن الثالث بقرن الثورات الاجتماعية، نظراً لما جرى فيه من ثلاث حركات كبرى؛ حركة البابكية، وانتفاضة الزنج، وهبات القرامطة، وقد غطت جميعها القرن من أوله لآخره.. وكان لهذه الحركات نظرياتها وأفكارها ودعاتها. وقد ارتدت كلها نفس القناع الدينى، وهذا ما يراه الكاتب طبيعياً بحكم أن النسق الذهنى المسيطر وقتها تمثل فى سيادة الفكر الدينى والعمل السياسى تحت وهم الخلافة، ومن ثم عبّرت الفئات والطبقات الاجتماعية عن طموحاتها وأحلامها وأوهامها من خلال مظلة الدين وهو اللغة الوحيدة المفهومة فى هذا العصر فى حين كانت تتخفى أسفله مصالح دنيوية فى الغالب، وما قد يراه الكاتب تكراراً زمنياً سقيماً هو ما جعل «صلاح عبدالصبور» يراه بعمق نظرته تكراراً وجب عرضه بل وإفراد المساحة الفكرية له، فكل ما حملته هذه الحقبة التاريخية من وقائع الإقليم الذى نعيش فيه بتناقضات اجتماعية وفكرية، كان الدافع ليبدى من خلاله آراءه ومواقفه فى قضايا معاصرة حافلة بالتعقيد، وهى قضايا غنية متجددة، وربما اتسع نطاقها مكانياً وزمانياً، لأنها تطرح فى جوهرها موقف المثقف من واقعة الاجتماعى الذى يحمل المرارة والذعر معاً والتسطيح فى أحيان ليست بالقليلة، ومدى وحدود التزامه بهذا الواقع وقدرته على التغيير!!
هل يريد القارئ استعجال الكاتب فى طرح نتيجة العرض والمقال.. حسناً لا كراهة فى ذلك، ولكن لنضع الأمر فى شكل السؤال الذى يحمل تفسيره شيئاً من الإجابة!!
إلى أى مدى يتشابه الحلاج مع المعارضة المصرية بشكل خاص أو المعارضة العربية بشكل عام؟!
علاقة الحلاج بالمجتمع هى تقريباً نفس علاقة المعارضة أو المثقفين فى هذا الوطن بنفس المجتمع حتى بعد مرور أكثر من ١١ قرناً من الزمان، فالحلاج كان مرتبطاً بقبيلة تُعد حليفاً سياسياً للانتفاضة الزيدية التى أثارها الزنج، وهذا الارتباط كان مصدر الأفكار التى أشيعت عنه فيما بعد من طبقة الحكم بأنه نزّاع إلى الثورة، بل و«متآمر» شيعى طبقاً للمفاهيم السائدة وقتئذ وأعيد بعثها مؤخراً. وهو الأمر الذى يتطابق مع موقف الأنظمة العربية فى زمننا من المثقفين أو المعارضة، خاصة فى ظل وجود تربة اجتماعية خصبة ومستعدة لتقبل هذا السفه من الأفكار.
أيضاً يستطيع القارئ ملاحظة أن الحلاج قد اختار الرحيل إلى مكة فى الوقت الذى قضى فيه على ثورة الزنج بزعامة على بن محمد -وكأنه صدى لثورة مهزومة لا ميلاد ثورة- وذلك بعد أن أصابه اليأس، فعاد يدعو إلى الفناء والتلاشى فى الذات الإلهية.. مختاراً أسلوباً يمتلئ بالرومانسية اللاواقعية للدعوة إلى التغيير وهو ذاته حال المعارضة -المثقفين- العرب فى عصر ما بعد جلاء الاستعمار، إذ تعتريهم حالة من الانكسار الواضح والإحساس بالغبن الدائم وقل هى حالة الدروشة السياسية.
أما مأساة الحلاج فهى ليست فى استشهاده أو فى عجزه عن اتخاذ قرار بالهرب من السجن، وإنما تكمن المأساة فى عجزه الفادح عن تحويل الكلمة إلى فعل، أى الصراع بين ما هو ضرورى تاريخياً وبين الصعوبة أو الاستحالة العملية لتحقيقه. لم يتطور الحلاج بسرعة الإيقاع المتغير فى المجتمع حتى لو كان هذا الإيقاع رجعياً، فالضرورة هنا هى المواكبة، وركن إلى نصح السلطان فى قلبه وبأشعاره.
وعلى صليب هذا الصراع يتمزق الحلاج حتى قبل أن يُصلب فعلاً عبر شكوكه وخوفه بل وتردده المرَضى.
الكاتب أحب الحلاج وغرق فى أريحيته كما أحب مثقفى هذه البلدان إلا أنه لا يريد لهم تكرار المأساة أو الغرق فى مرثيات الوطن.
نقلا عن الوطن