مثل ملايين المصريين، لا يكاد يأتى المساء، حتى أجلس أمام التلفاز كما يروق للمجمع اللغوى أن يسمى التليفزيون، أجلس شاخصاً باهتمام إلى الشاشة الصغيرة أو صندوق الدنيا حسب المصطلح الأدبى، ولم يعد للمصريين اهتمامات غير المستطيل الأخضر وساحرته الصغيرة ودكاكين الليل الشهيرة بالتوك شو واهتمام ثالث يضيف للسكان أعباءً جديدة بمواليد كثر يعرقلون خطط التنمية.
وكل ليلة من ليالى التوك لها طعم ومذاق مختلف، لكن الملاحظ الحصيف يكتشف ندرة الفرح الذى شح كثيراً، ووفرة الهم والنكد الذى يولد اليأس، ويشحن الناس بالاكتئاب، صحيح أن فرسان التوك شو يعكسون ما فى المجتمع من مشاكل ومآس وينقلون الواقع بلحمه ودمه وترابه ولكن الكآبة تسيطر على الشاشة، وكأن من المهم التحرش بالأمل، فلا يخلو مجتمع فى العالم من حوادث وأحداث تضيع فيها مئات الأرواح ويصحو المجتمع فى اليوم التالى إلى نهار عمل جديد ويغسل عيونه من الدموع بالأمل وهكذا قفزت المجمعات فوق أحزانها ونهضت وخرجت من عباءة الأسى إلى الحماس الذى لا يفتر. أما «الحالة المصرية» فالحزن يسكننا ويتمدد داخلنا ويستولى على مساحات اهتمامنا بالبناء والتنمية وربما كان هذا أحد الأسباب المهمة للجمود وفقر الخيال، إن بلداً - كسنغافورة - بناها الإنسان السنغافورى، وصين المليارات البشرية آمنت بفلسفة ماوتسى تونج أن «النظرية تصاغ فى التطبيق. مازلنا بلا نظرية تقود حياتنا، ولم يعد مؤثراً سوى التوك شو، فهو الذى يصنع المزاج العام ويحدد اتجاهات الرياح فى قضايا البلد.
(2)
من هنا تم تكليفى عبر شركة محترمة معنية من المهندس أسامة الشيخ «قائم مقام» الإعلام المصرى وأركان حربه ببرنامج، يذاع فى الشهر الكريم من الـC.B.C على موجتها وتحمست للعمل، فأنا أقيس حماسى من حين لآخر حسب «الرغبة»، ولأن النقاش يثمر دائماً، فقد كنت قد أهديت مجموعة من أصدقائى كتابى الأخير «اسمح لى أسألك» وفيه جمعت أجمل حواراتى مع الشخصيات العامة وكان صاحب الفكرة الشاعر الكبير فاروق شوشة وتحولت الفكرة إلى واقع، ومن بين حوارات القهوة والشاى ساعة العصارى ولدت فكرة «اسمح لى» أوجه فيها أسئلتى إلى 30 إعلامياً يمارسون مخاطبة المصريين عبر التوك شو. لماذا راقت لى الفكرة؟ لأنها ترصد الأداء الإعلامى المرتبك كثيراً، فلست بصدد محاكمته ولا يحق لفرد مهما بلغ عمر تجربته أن يحاكم الإعلام الذى يشكو منه رئيس الدولة والمسؤولين وزراء أو محافظين، إن محاكمة الإعلام مهمة شعب يفتح له أذنيه أو يقاطعه كما لجأت الملايين إلى مشاهدة الأفلام أبيض وأسود وكتبت بذلك تاريخ انتهاء الصلاحية للتوك شو.
(3)
من المهم أن أكون منصفاً وأنا أقدم كمحاور أحمل فوق ظهرى أربعين عاماً على الشاشة منها 20 عاماً فى حديث المدينة، الإنصاف يتطلب عدم العمومية فى الأحكام على الأداء الإعلامى، فهناك الصالح والطالح، وهناك الإعلامى الذى يفهم أن إشاعة الأمل وتفسير الواقع بحيادية وموضوعية هو الدور المنوط به على الشاشة وهناك الإعلامى «اللى يسودها» فيكسب مشاهدين جددا، وهناك الإعلامى الذى «يسخن» النقاش إلى حد السباب والشتائم وربما الإمساك بالأيدى ولمس الأكتاف للأرض على طريقة المصارعة - من الثابت أن الإعلام ليس ظهيراً مثلما كان ظهيراً لعبدالناصر، من الثابت أن فترة السيسى تتطلب إشاعة الأمل رغم عتمة الطريق فهو يواجه إرهاباً متوحشاً أسود يحارب مصر بكل الوسائل المشروعة وغير المشروعة، من الثابت أن قوى الشر تريد «تجويع» الناس وتريد «حرق قلوبهم» وتريد «إسقاط الدولة» وتريد «هزيمة الإرادة المصرية» وتريد «إشاعة الخوف والترويع»، فهل تحتاج مصر فى هذه الآونة إلى «إعلام دموى» يسكب الغاز على النار فيزيدها اشتعالاً، هل تحتاج مصر إلى كآبات ليلية تصدرها الشاشات لإضعاف الروح المعنوية؟
من هنا، كان دورى كمحاور، أبحث وأنقب وأتحرى وأتقصى داخل كل إعلامى جلس فى مقعد الضيف، لأن بعض الإعلاميين لا يروق لهم مقعد «الضيف» لأنه كاشف شديد الضوء للخواء الفكرى والأداء المتدنى، استعنت فى البرنامج «اسمح لى» أن أنكش الضيف على سبيل نزول المباراة مستعداً، البعض اعترف بالأخطاء والبعض قاوح وتكلم وكأنه عضو فى التنظيم الطليعى، البعض أجاب عن كل سؤال أو تساؤل والبعض كاد يستعين بصديق، ولما كان أغلب الإعلاميين يستعينون وهم يقدمون برامجهم «بالإيربيس» حيث يجلس معد مدرب على الهمس فى أذن المذيع أو المذيعة بالسؤال والإيماءة وهز الرأس والاعتراض والضحك أو العبوس، وكأن المذيع أو المذيعة «ممثل» فوق خشبة مسرح يردد ما يقوله «الملقن»، لقد شعرت أن بعض الإعلاميين الذين جلسوا على مقعد الضيف فى حالة «توريط» لأن الملقن غاب!!
(4)
قمت بسياحة ذهنية فى رأس كل ضيف واستعنت بالمعادل البصرى وهو لقطات أذيعت وأحدثت ضجة سلبية وكان من المهم أن نضعها تحت البحث ومدى التدنى الأخلاقى والسلوك العشوائى فيها، ربما مرت فى حينها، ولكن فى برنامج يرصد «الأداء الإعلامى» فى مصر كان ضرورياً الوقوف أمامه بعين النقد الأكاديمى أحياناً، إنها مهمة كليات الإعلام، لكن ما أردت أن تغلب «النظريات» على الممارسة الفعلية للمهنة، وكان من الضرورى أن تتسع دائرة الإعلاميين الممارسين فعلياً، فدعونا بعض إعلاميى العالم العربى المؤثرين.
كنت أحرص طوال الدقائق الثلاثين على قياس المهنية مستعيناً بأفكار رواد المهنة الأوائل فى زمن السلوك العف والكلمة النبيلة حتى الاستفزاز الفكرى الذى كنت ألجأ إليه فى حواراتى.
(5)
حرصت على الدخول فى عمق المهنية ليفهم الناس دور المعد ودور «الملقن» فى أذن المذيع أو المذيعة ودور المخرج على الهواء وطريقة انتقاء الضيوف ومشروعية المداخلات من الجماهير ولحظات التلاسن بين زملاء المهنة حتى مدير الاستديو فى برامج تضم جمهوراً بأجر يتلقى التعليمات منه، بالتصفيق أو الصمت، حرصت على فهم أسباب انسحاب الضيوف على الهواء من الاستديو وهل هو تصرف تلقائى أم مفتعل، كنت طوال الحلقات أسأل: هل تبث الشاشات ثقافة، وهل تحرض على السلوكيات الحميدة، لقد كانت المذيعة ملك إسماعيل تقدم فى الزمن الجميل «سلوكيات» حتى تكون نبراساً يقتدى به، وكانت ليلى رستم تقدم «20 سؤالاً» لتجعل الفكر مادة للتفاعل معها والثقافة سلوكا ويوم قدمت أول توك شو بين الشارع والمسؤول فى ضفيرة واحدة كان الهدف المحدد «تحجيم» المشكلة والحلول المقترحة، لم نكن نكذب على مشاهد أو نخدعه بل كنا نكشف المسؤول أمام القيادة السياسية، كان هذا قبل سطوة الإعلان على الإعلام، كان هذا قبل أن يعرف المذيعون الملايين ويتحولون إلى زعماء يحتكرون الحقيقة، كان هذا قبل أن يتحول الاستديو إلى «مكلمة» تتضارب فيها الآراء بعصبية وزعيق ويضيع الموضوع المطروح.
(6)
كان من الضرورى أن نصغى للإعلاميين والإعلاميات: هل تنقصهم المعلومات وهل تحجب عنهم؟ وهل القوانين قادرة على ضبط الأداء، وهل هناك عقوبات للمخالفين وما مداها، حاولت الطرح رغم غياب أسماء إعلاميين ربما ظنوا أنه «فخ» يحاورهم ويناورهم ويكشف حقائق لا يعرفها شعب غلبان فى حاجة إلى كوب ماء نظيف وعلاج بدواء فعال ومدرسة فيها معلم راض وكتاب جذاب وعلوم مرتبطة بالحياة وشيخ لا يفتى فى بلد الأزهر حجة الوسطية، ولم يدخل البرنامج ذو الثلاثين دقيقة مدرجاً جامعياً تتلى فيه محاضرات نظرية صماء، بل دخلت استديو الهواة لأعرف واقعاً عن إعلام مصر هذا الزمان حيث «نهيص» ليلة خبر مفرح و«نهجص» بقية الأيام!
نقلا عن المصرى اليوم