مشهد الأم المكلومة، التى تقف أمام مشرحة زينهم فى انتظار أشلاء الابن، أو بالأصح جزء من أشلاء الابن، هو من أقسى وأبشع المشاهد التى مرت على هذا الوطن، والتى أعتقد أن الذاكرة لن تنساها أو تسقطها سنين طويلة، أم متأكدة من أن ابنها ما زال حياً يصارع الأمواج برغم أنها على يقين بأنه لا يجيد السباحة، لكنها حالة الإنكار التى تستخدم كميكانيزم دفاعى نفسى عندما لا يحتمل جهازنا العصبى حجم الكارثة ووقع المصيبة، تأتى سيارة الإسعاف تحمل الأشلاء فى حقيبة، وبعض المواقع كتبت أنه مجرد كيس من اللحم!!، مشهد مأساوى يعتصر القلب ويكسر الوجدان ويشرخ الروح، تستيقظ الأم من حالة الإنكار، ليصبح سقف أملها ومنتهى طموحها قطعة جلد من جسد الابن أو مجرد عقلة أصبع أو بصمة خد أو جبهة أو حتى حدقة عين، لتظل محتفظة بذكرى مصافحة السلام والتحية وقبلة الوداع وحضن الاحتواء ونظرة الصفح، تصر على إجراء تحليل «الدى إن إيه» فى الطب الشرعى،
لكى تثبت أن تلك المزقة الجلدية أو النسيرة اللحمية هى من عبق أطلال ذكرى الابن، لكى تضعها فى نعشه وتدخل بها إلى مقبرته بعد صلاة الغائب وتضع شاهداً مكتوباً عليه مات ضحية الغدر والكراهية!، تمضى كالمغيّبة، ليسحبوا منها العينة وتنتظر رحلة المضاهاة والمقارنة والفرز والتصنيف فى زمن تعيش فيه مصر أقسى لحظات الفرز والتصنيف، تذكرت إيزيس التى ظلت تبحث بقاربها عن أشلاء أوزيريس الذى انتقم منه ست إله الشر واغتصب عرشه، بحثت ونقبت إيزيس حتى جمعت الأشلاء وخصبت رحمها بهذه النسخة الأوزيرية الجديدة، ولدت إيزيس ابنها حورس الذى أصبح الآن شعاراً لشركة مصر للطيران، استيقظ حورس، كفكف دموع الأم، سنّ من صلابتها سيفاً وشكّل من إصرارها رمحاً وذهباً ليحارب ست، ليقاتل الكراهية والبغضاء والحقد والغل، حاربه ليظل النهر جارياً، والحياة نابضة، والمصرى خالداً صانعاً للضمير، وناسجاً للحب والعطاء، ست، إله الشر،
ما زال حياً برغم انتصار حورس القديم، نبتت له قرون الشر من جديد، وتبرعم ذيل الحقد من الجديد، خصّب ذاته ولقّح مسخه وتناسل، وصار له آلاف الأبناء من سفراء الشر، للأسف احتل أحفاد «ست» خلايا العقل المصرى، وتمترسوا خلف شعارات الدين وسبحوا مع تيار الدم إلى مراكز التنفس والفكر والوجدان، خربوا الروح، زرعوا الكراهية، سمموا آبار الحياة، فهل ستظهر إيزيس جديدة فى جسد تلك الأم المكلومة يكون لديها نفس الإصرار على لملمة أشلاء أوزيريس؟، هل سيولد حورس جديد ويصير لدينا أحفاده ممن يعشقون تراب هذا البلد؟، تراباً يتمنونه طيناً يحتضن بذور النماء والحب، لا يتمنونه رماداً لجثث محترقة وأشلاء ممزقة.
نقلا عن الوطن