كنت أداعب الكاتب الكبير الراحل «أسامة أنور عكاشة» مشيراً إلى شخصية «خلة» التى ابتدعها فى مسلسله الأشهر «ليالى الحلمية» وجسّدها الفنان الراحل «شوقى شامخ»، متسائلاً هل رسمها بهذا الشكل المثالى لضرورات درامية أم خوفاً من ردود الفعل القبطية الغاضبة فى حالة إذا ما أبرز بها عيوباً أو مثالب أو عورات؟!.. فكان يضحك كثيراً ويعترف بأنه يخشى سوء فهم المتلقى المسيحى الذى سوف يتصور على الفور أن المؤلف تحركه دوافع طائفية.. فليس هناك داع إذاً لخلق تلك الحساسية، وأردد ممازحاً أننى أتمتع دونه بتلك الحرية فى رسمى للشخصيات القبطية الدرامية بصفتى مسيحياً وأن «مكة أولى بشعابها».. وخير دليل على ذلك إقدامى على التناول الساخر لشخصيتَى «بطرس» و«أليس» فى مسلسلَى «يا رجال العالم اتحدوا» و«النساء مقبلون» وهما زوجان.. الزوج الذى جسّده الفنان «حسن حسنى» عاطل عن العمل، مستهتر، فوضوى، مرح، متمرد ضد التعاليم والطقوس الجامدة، وزوجته التى جسّدتها الفنانة «إنعام سالوسة» متعصبة، ومتشددة دينياً، تحفظ آيات الكتاب المقدس دون فهم وترددها كالببغاء، وتطبقها فى حياتهما الزوجية تطبيقاً خاطئاً، تهمل واجباتها الزوجية، وتفرط فى أداء الطقوس التى تتمسك فيها بالتدين الشكلى أو القشرى.
قلت لصديقى الكاتب الكبير: ومن قال لك إننى نجوت من مشاعر السخط والازدراء والهجوم من الكثيرين من المتلقين الأقباط على شخصى الضعيف؟! لقد انهالت الاتهامات ضدى تتهمنى بالإساءة إلى الكنيسة من خلال الإساءة إلى الشخصيات القبطية فى المسلسل دون أن يدركوا بديهية أن الدين شىء والشخصيات التى تدين به شىء آخر.
وتأتى تلك الاتهامات كنتيجة منطقية لمجموعة من الدوافع والأسباب والرواسب المعقدة التى تحتاج إلى دراسات دقيقة من قبَل علماء النفس والاجتماع يتمحور الكثير منها فى التأثر بعزلة اختيارية فرفضوها على أنفسهم كرد فعل لما يتصورونه اضطهاداً من الآخر، ففرضت عليهم تلك العزلة إحساساً بالتمايز الخادع الذى لا يرضى من خلاله المسيحى إلا أن يكون نموذجاً للطهارة والنقاء، روح محلقة بالإيمان وقلب عامر بالحب والقداسة.. وسلوك يفيض بالرحمة والتسامح والمغفرة، ونفس تمتلئ بالتقشف والزهد.
لذلك فإن شخصيات المسلسلين من المسيحيين حينما فوجئ بهم على الشاشة مسّه ما مسّ متفرجى السينما فى بدايتها حينما شاهدوا على الشاشة لقطة قطار مقبل فى مواجهة الكاميرا فيبدو وكأنه مندفع فى اتجاههم.. ففزعوا وهرعوا خارجين من قاعة العرض خوفاً من أن يدهسهم.
هذا -وفى واقعة هامة ودالة أحدثت لغطاً كبيراً- ثارت ثائرة المتشددين وطالبوا بمنع عرض فيلم «بحب السيما» بحجة ازدراء المسيحية ومعتقداتها رغم أنه مجرد شريط سينمائى يحمل رؤية فنية لصانعيه.. ورغم أن الشخصية النسائية التى لعبت بطولتها الفنانة «ليلى علوى» وجسّدت فيها دور الزوجة المقهورة التى تعانى من عسف وجمود وتعصب زوج (لعب دوره الفنان محمود حميدة) يقف على حافة التطرف الدينى.. هذه الشخصية الدرامية لم تكن زوجة لكاهن، ولم تفكر فى تغيير دينها، فما بالكم بحالتَى «وفاء قسطنطين» و«كاميليا شحاتة» مثلاً؟! المدهش أن عامة المسيحيين الذين يعبّر الفيلم عن الكثير من تفاصيل ومشاكل حياتهم بصدق استجابوا فوراً لتعاليم فقهاء الكاتدرائية ولعنوا الفيلم ومؤلفه ومخرجه وقاطعوه حتى أسقطوه -تجارياً- ثم ذهبوا إلى الكنائس يصلون ويبتهلون إلى الله أن يُدخلهم ملكوت السماوات.
والمضحك أن القمص راعى الكنيسة المعلقة، الذى قاد أحد عشر قسيساً ومستشاراً لرفع دعوى «حسبة» ضد الفيلم لمنع عرضه وكفّر فى لقاء تليفزيونى مؤلف الفيلم، هو نفسه الذى أعلن فى معرض حديثه عن الإخوان أن أى مثقف سواء كان مسلماً أو قبطياً يرفض الفكر السلفى الوهابى.
مثال آخر، أذكر أننى تابعت بشغف واهتمام مسلسل «دوران شبرا» الذى يُعتبر من أفضل الأعمال التى عُرضت فى رمضان 2011 حيث يعكس بصدق بالغ أحوال وهموم بشر يمثلون شريحة اجتماعية هى غالبية الطبقة المتوسطة فى مصر.. يعانون مشاكل مجتمع يحرمهم من حقوق إنسانية فى حياة كريمة ويصادر أحلامهم المشروعة ويجهض آمالهم فى غد أفضل من خلال أسرتين تقطنان فى شقتين متجاورتين بحى شبرا، تسكن إحداهما أرملة مسيحية جسّدت شخصيتها ببراعة لافتة الفنانة «دلال عبدالعزيز».. وتسكن الأخرى سيدة مسلمة وأولادها.. وجسدت الفنانة «عفاف شعيب» الشخصية باقتدار كبير فى واحد من أفضل أدوارها فى تاريخها الفنى كله.. ويغزل المؤلف بعمق وبساطة آسرة فى نفس الوقت علاقتهما الحميمة ودفء مشاعرهما وتكاتفهما الإنسانى الذى يسمو فوق أى نزعة طائفية أو فرقة عنصرية، ويوجد بينهما هم واحد مشترك فى حياة صعبة وظروف اجتماعية شائكة وتربطهما ذكريات شجية وأحزان صنعتها أحداث لا تُنسى ما زالت محفورة فى ذاكرة الأيام.
ورغم ذلك، ورغم الثورة التى وحّدت المشاعر وقدمت أمثلة عظيمة للتآخى والوحدة الوطنية، فقد عاد الظلاميون والمتشددون ودعاة الفرقة والتمييز يثيرون غباراً كنا قد نسيناه وتجاوزناه، وقام محام مسيحى برفع دعوى قضائية ضد المسلسل وصنّاعه لأنه لم يعجبه ملابس ممثلة بالمسلسل رأى أنها غير محتشمة ولا يليق أن ترتديها ممثلة تجسد دور فتاة مسيحية فى خلط ساذج بين المسيحية كدين وبين المسيحيين والمسيحيات كأخلاق وسلوك.
مثال آخر يحمل مفارقة كوميدية ساخرة فجّرها مسلسل «أوان الورد» الذى كتبه «وحيد حامد».. متصلة برسم شخصية «روز» التى جسّدتها الفنانة «سميحة أيوب»، فقد جاءت الشخصية ملائكية السلوك، مثالية، ودودة، خيّرة، تنطق بالحكمة وتنطوى جوانحها على كل ما هو جميل وراق، تنشر الحب والوئام، وتفوح بعطر الفضيلة والسلام، لا تعرف الخطأ، ولا تصدر عنها هفوة واحدة، ذات ضمير حى يقظ، وبصيرة لا تميل عن الحق، وعقل لا يحيد عن العدل، ومشاعر تفيض بعطاء الثمار النضرة، وقلب وضّاء بنور الإيمان العميق الراسخ الذى ترويه بصلواتها الخاشعة للخالق العظيم.
وهكذا فقد شاهدها المتفرج المسيحى «المتشدد» نموذجاً للشخصية المسيحية كما يريد أن تكون -وكما أراد لها المؤلف أن تكون- لكن المفارقة الكوميدية تكمن فى أن المتفرج لا يقبل أبداً أن تكون هى نفسها تلك المارقة المنفلتة الجامحة التى استجابت لشيطان عواطفها المتأججة ورغبات نفسها المتمردة.
إن ردود الفعل الغاضبة التى يثيرها المتشددون والتى تعكس الحمية والغيرة على ما يرونه مساساً بعقيدتهم إنما هى ردود فعل هوجاء تخاصم العقل وتعادى المنطق وتنحاز انحيازاً كريهاً وأعمى لتأييد مباركة التيارات الظلامية ورموزها.. أولئك المرضى الذين يحرمون ويجرّمون ويكفّرون حرية الفكر والإبداع ويصادرون الاجتهاد.
والحقيقة أن رافعى الدعاوى القضائية ضد تلك المسلسلات والأفلام يقفون فى نفس خندق التطرف الإرهابى الذى يدعو إلى مصادرة الإبداع، ويعودون بنا إلى عصور محاكم التفتيش.
فأى ردة حضارية تلك التى تحاكم بموجبها الأعمال الفنية، فالرأى يجابهه الرأى الآخر، والحجة تقرع الحجة، ولا يصح ولا يجوز الخلط بين مهمة المؤسسات الدينية وبين دور الفكر الحر، ووظيفة الفن، فالزج والتوريط للسلطة الدينية فى محاولة مصادرة عمل فنى هو الإرهاب بعينه.. وأى مجتمع حضارى ذلك الذى يقبل الإرهاب؟!
نقلا عن الوطن