الأقباط متحدون - الهتّافون والأرزُقية ولاعبو الثلاث ورقات فى شارع الثورة
أخر تحديث ١٤:٤٥ | الاثنين ٣٠ مايو ٢٠١٦ | ٢٢بشنس ١٧٣٢ش | العدد ٣٩٤٤ السنة التاسعة
إغلاق تصغير

الهتّافون والأرزُقية ولاعبو الثلاث ورقات فى شارع الثورة

عاطف بشاى
عاطف بشاى

عاصرت الشاعر والمؤلف والمخرج المسرحى الكبير الراحل نجيب سرور، الذى كان يملأ الدنيا فناً وتوهجاً وصخباً وجنوناً فى سبعينات القرن الماضى، ويخوض معارك أدبية وفكرية وسياسية نارية وجسورة، متحصناً بضمير يقظ شفاف، مستخدماً قلماً حاداً لاذعاً كأسنّة الرماح.. يهتك به أستاراً من الزيف والكذب والنفاق.. ويسخر فى هجاء قاس من نماذج بشرية شوهاء.

وكنت أجالسه أحياناً بمقهى «ريش» فيأسرنى بعطفه الفياض ويحنّ علىّ دون أن أطلب بأن يزكّينى لدى رؤساء تحرير المجلات الراسخة وقتها مثل «الكاتب» لينشروا لى بعض المقالات وأنا مازلت فى العشرينات من عمرى.

وعلى مقهى «ريش» أدار عينيه فى الجالسين حوله من بعض المثقفين الأصدقاء وانهال عليهم بالهجاء المرير الذى كان يصوّر من خلاله حالة الفصام الفكرى التى يعانى منها من يكذبون ويخادعون ويتلونون ويتحولون ويرتدون الأقنعة ويحتالون ويدّعون الصدق والإخلاص ونقاء السريرة وثبات المبدأ وطهارة المقصد.

وقد ظهر هذ الهجاء المرير بأبدع ما يكون فى قصيدته «بروتوكولات حكماء ريش» التى يصف فى ديباجتها النقاد «سحالى الجبّانات» والشعراء والقصاصين بأنهم هواة البحث عن الشهرة والخبراء بكل صنوف الأزمات، ويؤكد ساخراً متحدثاً باسمهم فينصح المتلقى إذا أراد أن يتشبه بهم ألا يقرأ شيئاً.. يكفى أن يكون «حمّال حطب» فيحمل طن كتب ويضع بجانبه قنينة بيرة ويشرب ولا يقرأ، وإذا قرأ يجتهد ألا يفهم شيئاً مما يقرأ: «ليس يهم اليوم الفهم/ فالمفهوم اللامفهوم/ أو بالعكس/ لن يسألك أحد معنى قولك/ فالمفروض اللامعنى للأشياء وللكلمات».

وفى البروتوكول الثالث ينصح بعدم الصمت، فالصمت جهالة والثرثرة الجوفاء فضيلة، لكن على المتحدث الأُلعبان أن يحذر فى الوقت نفسه أن يتكلم فى لبّ الموضوع المثار.. المهم الشكل.. المظهر.. لا المضمون: «لتأخذ سمت الأستاذ وحذار أن تنسى البايب والكلمات اللاتينية.. قل فى الواقع واصمت لحظة.. قل لا شك واصمت لحظة، ثم مقدمة محفوظة فى فذلكة المنهج حسب الموجة والتيار فالبحر سباق، والموجات ألوف».

ويرى نجيب سرور فى النهاية أن هذا النموذج الذى يعيش غير ما يُعلن هو حالة فصام. هذه الحالة هى أخطر أمراض البشر.

قادنى البحث عن سمات تلك الشخصيات إلى الروايات الست التى نُشرت لنجيب محفوظ فى النصف الأول من الستينات والتى حللها بعمق أخّاذ وأبدع فى تفسير سلوكها النفسى الكاتب الكبير صلاح عيسى فى كتابه «شخصيات لها العجب». إنها شخصيات سعيد مهران فى «اللص والكلاب» وعيسى الدباغ فى «السمان والخريف» وعمر الحمزاوى فى «الشحاذ» وصابر الرحيمى فى «الطريق» وأنيس زكى فى «ثرثرة فوق النيل» وسرحان البحيرى فى «ميرامار». وهذه النماذج التى التقطها نجيب محفوظ من مجتمع يوليو فى مرحلة ما قبل الهزيمة وما بعدها ليس بينها نموذج يدعو إلى الاحترام أو الثقة، فالذين يتصدرون المشهد الثورى فى تلك السنوات هم الانتهازيون والهتّيفة والخونة والمنافقون والذين تنكّروا لمبادئهم.

سرحان البحيرى، بطل رواية «ميرامار»، هو الوحيد فى الرواية الذى يمثل الثورة والذى انتهى قبل شهور قليلة من هزيمة عام 1967 إلى مصير قريب من المصير الذى انتهت إليه فى يونيو من ذلك العام، فيما يمكن اعتباره تأكيداً للنبوءة التى أعلنها نجيب محفوظ فى ختام رواية «ثرثرة فوق النيل».

سرحان البحيرى كان أثناء دراسته فى الجامعة عضواً نشيطاً فى لجنة الطلبة الوفديين فى الكلية خلال الشهور الأولى للثورة ومن المعارضين لها، لكنه غيّر اتجاهه بعد ذلك وانضم إلى «هيئة التحرير» ثم الاتحاد القومى ليستقر أخيراً بلجنة الاتحاد الاشتراكى بشركة للغزل التى يعمل وكيلاً لحساباتها، ثم انتُخب عضواً بمجلس إدارتها ممثلاً للعمال وذاع عنه فى الشركة وخارجها أنه شاب ثورى متحمس.. يقول صلاح عيسى فى وصف سرحان إنه نموذج للانتهازى القارح الذى لا يؤمن بالثورة حتى ولو كان من المنتفعين بها.. لكنه يبالغ فى التظاهر بالحماس لها لكى يتقرب من باشوات العهد الجديد الذين ورثوا السلطة والنفوذ وبالتالى الثروة من باشوات العهد البائد وأخذوا يوزعون الامتيازات على حواشيهم وذيولهم فكان طبيعياً أن يزدحم شارع الثورة بالهتّافين والأرزُقية والمنافقين الذين احترفوا الأكل على كل الموائد.

أليس مدهشاً إذاً -وبعد مرور خمس سنوات على قيام ثورتى 25 يناير و30 يونيو- أن يبدو نجيب محفوظ وكأنه قد قرأ سطور المستقبل وعاصر وقائع الثورتين واستلهم عجائب شخصياتها وتأمل مغزى مصائرهم وعبث ما يسمى «حركة التاريخ» ودروسه التى تعيد نفسها وتتكرر..

يقول سمير عبدالباقى صديق عيسى الدباغ الذى فُصل معه فى التطهير: كنا طليعة ثورة فأصبحنا حطام ثورة (أصبح من الفلول بلغتنا الآن).. كيف يكون للحجر دور فى مسرحية وللحشرة دور وللمحكوم عليه فى الجبل دور.. ونحن لا دور لنا؟!

يقول له عيسى: أى عمل سنتخذه سنظل بلا عمل لأننا بلا دور، وهذا هو سر إحساسنا بالنفى كالزائدة الدودية وستزداد ضحكاتنا كلما رأينا التاريخ وهو يُصنع لنا دون أن نشارك فيه كالأغوات.. أى مصيدة قد وقعنا فيها.. إما أن نخون الوطن أو نخون أنفسنا.

لكنهم فى ثورة 25 يناير يقررون أن يعملوا «سحالى جبانات» مثلما وصفهم نجيب سرور وحدد مكمن الداء فى انفصالهم الفكرى وثرثرتهم الجوفاء بلغة لا يفهمها العامة كما لا يفهمها المثقفون الحقيقيون.. وهم، فى عملهم كسحالى جبانات، حنجوريون يشاركون السماسرة وباعة الوهم والمتاجرين بالوطن ولاعبى الثلاث ورقات والبيضة والحجر.. يجلسون القرفصاء أمام الميكروفونات ليبيعوا الشعارات ويحشوا كما يقول نزار قبانى أفواه الجماهير تبناً وقشاً.

أما نجيب سرور فهو خريج معهد التمثيل «1956»، وفى أواخر عام «1958» سافر فى بعثة إلى الاتحاد السوفيتى، حيث درس الإخراج المسرحى وعاد إلى مصر «1964»، حيث شهدت القاهرة فترة ازدهار إبداعاته المسرحية والشعرية والنقدية. وفى فترة السبعينات عانى ظروفاً مأساوية، فقد اضطُهد وجاع وتشرد وطورد وفُصل من أكاديمية الفنون، حيث كان يعمل أستاذاً للإخراج والتمثيل وأُدخل عدة مرات إلى مستشفى الأمراض العقلية.

يقول عنه صديقه الحميم الروائى «عبده جبير»: «كان نجيب سرور أكثر البشر حساسية ورهافة.. كما كان يحب مصر إلى حدّ الهوس».. لعل تلك الحساسية بالإضافة إلى الضغوط السياسية والاجتماعية التى تعرّض لها هى التى أدت به إلى غياب العقل.. فكلما كان صاحب النفس أكثر رهافة أصابه نصيب من الجنون.. والحالة هنا أقرب إلى «الفصام» الذى يتمثل فى اضطراب علاقة المريض بالعالم الخارجى، مما يجعله يعيش عالماً خاصاً مليئاً بالخيالات.. ومن ثم اضطراب الإدراك الحسى والإدراك الواعى واضطراب الشعور والانتباه والتفكير الذى يتجلى فى الإسقاط والهُذاءات وعدم تمييز الواقع وكثرة الهلاوس وانعدام التوافق بين الانفعال والسلوك.. وربما يتأكد لنا ذلك من خلال واقعة يشهد عليها «عبده جبير» حيث يقول: فى ميدان التحرير رأيت نجيب سرور يقوم بأداء عرض مسرحى كامل ممسكاً بيد ابنه الصغير ويصيح: ألاؤنا.. ألا ترى، مين يشترى الورد منى؟.. وتذكرت أننى حينما رأيته منذ ليال مضت على خشبة وكالة الغورى يقوم بالتمثيل فى مسرحية «أوكازيون» أحسست ساعتها بأن مساحة المسرح ضيقة على هذا الممثل العبقرى..

لم يكن «نجيب سرور» وهو يعرض ابنه للبيع يعبث.. بل إنه أراد أن يقول للجميع: هذه هى الخشبة الوحيدة التى يمكنها أن تستوعب موهبتى الكبيرة.

كان الجمهور يعرف بالطبع أن هذا هو «نجيب سرور» الممثل العبقرى، الكاتب والشاعر، لذا فقد رأيت الدموع فى عيون الناس وهم يتابعونه فى شغف.
نقلا عن الوطن


More Delicious Digg Email This
Facebook Google My Space Twitter
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع