اتخذت عنوان هذه السلسلة من المقالات من المثل الذى يقول إن أشد ساعات الليل حُلكة تلك التى تسبق الفجر، وهو ما يؤكده واقعنا المعيش ونحن نسعى لبلوغ فجر دولة المواطنة، التى تتبنى العدالة والحرية والمساواة، ولعل ما حدث بالمنيا مؤخراً من أحداث إجرامية استهدفت مسيحيى واحدة من قراها يؤكد ما ذهب إليه المثل، وهى أحداث قد تبدو طائفية جنائية لكنها فى ظنى تأتى بنكهة سياسية، فى سياق الصراع الذى يديره أعداء ثورة 30 يونيو، وأظنهم يقفون وراء تحريك الأحداث ودفعها فى اتجاه خدمة هدفهم، وقد نفهم هذا فى إجابتنا على أسئلة تفرض نفسها هنا: «لماذا المنيا؟، ولماذا الآن؟».
فالمنيا بلد الجن والملائكة، تجمع كل المتناقضات بين أعرق مؤسسات التنمية البشرية والمجتمعية (جمعية الصعيد والهيئة القبطية الإنجيلية) اللتين تعملان فى تنمية القرى الفقيرة، وبين كونها منبت ومنشأ كل الجماعات المتطرفة من الجماعة الإسلامية وحتى جماعة الإخوان مروراً بكوادر حزب الوسط والسلفيين وغيرهم.
وتجمع بين كبار رجال الأعمال وبين الفقر المدقع الذى يغطى نجوع وقرى عديدة، والتى صارت طاردة لبنيها الذين يطوفون البلاد بحثاً عن عمل، وامتدت هجرتهم إلى خارج مصر، سواء إلى دول الخليج أو الدول الأوروبية، وما زالت واقعة استشهاد عمال المنيا فى ليبيا ماثلة فى الأذهان، وبها جامعة عريقة بالتوازى مع أكبر نسبة جهل، بل إن جامعتها ترفض تعيين شابة متفوقة ومستحقة معيدة فى واحدة من كلياتها، ومجتمعها يرفض تعيين ناظرة لمدرسة لكونها سيدة مسيحية.
أنا هنا لا أجتر مرارات واقع إنما أشير إلى غياب ليس فقط إرادة بعض المتنفذين فى الدولة، بل أيضاً غياب إرادة المجتمع.
يطرح الكُتَّاب والمفكرون بامتداد سنوات طويلة قضية التعليم والثقافة وتابعهما الإعلام، ويستصرخون كل من له صلة بهذه الآليات التى تشكل العقل الجمعى للمصريين، ومعهم الفن والأدب والطرح الدينى السائد، ويدعونهم لمراجعتها وضبط بوصلتها باتجاه التأسيس للدولة المدنية، دولة المواطنة، لكنها فيما يبدو صرخات فى وادٍ، لا تجنى غير رجع الصدى.
ثم نستغرب كلنا من حال مؤسساتنا ومصالحنا ودواوين الخدمات التى تتعامل مع همومنا وحياتنا ويومنا وقد أصابها الترهل والجمود وبعضها ضربها الفساد وغابت عنها المهنية ومن ثم الإجادة، وغامت قيم عديدة وتاهت وربما اختفت.
فعلى امتداد عقود غابت الرؤية، وغاب التخطيط، واختلطت الأهداف، وحضرت الإدارة برد الفعل، وحضرت الحلول المسكنة، وترحيل الأزمات رهاناً على الزمن.
غاب الفعل وحضرت الثرثرة، تفككت الـ(نحن) وتصدرت الـ(أنا) المشهد.
ثم نتساءل: ماذا حدث لمصر؟!
الموروث ثقيل ومتغلغل حتى إلى مقار طيف من ضباط المباحث وبعض وكلاء النيابة، التى يبدأ من عندها مشوار العدالة، فبينما هم يمثلون الحيادية ويُلزمهم (القانون) بعدم إظهار انتماءاتهم الدينية أو التأثر بها، تجدهم قد حشدوا مكاتبهم بكل ما يؤكد هذا الانتماء، ليس تديناً فى غالب الأحوال بل تزيداً وغلواً، وعندما تراجع الآيات الكريمة التى تعتلى جدران مكاتبهم تكتشف بغير عناء التوجه الباطنى لهم. والمتابع عن قرب يلمس تراجع المهنية عند كثيرين لأسباب تتعلق بكيفية الإعداد أكاديمياً وعلى الأرض فيما يعرف بالتدريب المستدام الذى يغيب عن أغلب مؤسساتنا ذات الصلة، وربما لخفوت دور المساءلة والمحاسبة وفق قواعد مجردة وموضوعية وصارمة لضبط الأداء.
ظنى أن الحلول ليست سابقة التجهيز وتحتاج إلى دراسة متعمقة لظروف الإقليم، تبدأ بالإدارة المحلية التى تحتاج لقيادات مختلفة تملك رؤية مجتمعية تنموية وتنويرية، بعيداً عن الخلفيات الأمنية.
أما لماذا الآن فهذا ما سنتناوله فى مقال تالٍ.
نقلا عن الوطن