الأقباط متحدون - سيدة مصونة.. ومجتمع مفضوح!
أخر تحديث ١٢:١٤ | الجمعة ٣ يونيو ٢٠١٦ | ٢٦بشنس ١٧٣٢ش | العدد ٣٩٤٨ السنة التاسعة
إغلاق تصغير

سيدة مصونة.. ومجتمع مفضوح!

محمد نور فرحات
محمد نور فرحات

الحادثة وتفاصيلها معروفة يخجل القلم من ذكرها والضمير من تذكرها. لا يمكن أن تمر الحادثة الفضيحة مرور الكرام بالمراهنة على أن الزمن كفيل بالنسيان. المطلوب أن نثبت أننا فعلا وحقا دولة قانون وعدل فى علاقتها بالمواطنين أو فى علاقة أعضاء المجتمع ببعضهم البعض. لا دولة بلا قانون عادل وإلا تحولت الدولة إلى مجموعة من العصابات المتناحرة. يحمد للرئاسة بيانها الذى ركز على تطبيق القانون والمساءلة. فليتصالح من يريد أن يتصالح فى حقوقه الخاصة تأثرا بمعسول كلام رجال الدين والعشائر من الطرفين. عمر بن الخطاب قال للقبطى اضرب ابن الأكرمين. ورسولنا الكريم قال (والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها). ورجال الدين عندنا يتجاهلون هذا التراث المجيد من إعلاء الشرعية ويكتفون بإخماد ظاهر نيران الفتنة مع بقاء الجمرات مشتعلة تحت الرماد إلى حين.

المجتمع إن تصالح مع الجانى وأهدر قانونه وضع حجر الأساس لانهياره وتحوله إلى مجتمع الطوائف. المساءلة يجب ألا تقتصر على شقها الجنائى بمحاسبة المتهمين وفقا لتحريات الشرطة وتحقيقات النيابة. يجب أن تمتد المساءلة قبل ذلك إلى الموظفين العموميين الذين يثبت عليهم كذب أو تهاون أو تقصير، بدءا من المحافظ حتى رجال الشرطة حتى عمدة القرية. هل كان همهم الأول جميعا فى تعاملهم مع الأزمة وتصريحاتهم الإعلامية، الحفاظ على مقاعدهم من أن تهتز بدلا من الحفاظ على القانون الذى اؤتمنوا على تطبيقه وعلى المواطن الذى اؤتمنوا على حمايته؟

الدولة من تقاليدها أن تتردد كثيرا قبل مجازاة كبار موظفيها حرصا على هيبتها. مع أن هيبتها ليست فى حماية مسؤول مقصر بل فى احترام القانون والعدل. من التقاليد العريقة للإدارة المصرية إبراء المرؤوس لذمته أمام رئيسه بأى ثمن بإثبات الولاء، بدلا من الوفاء لقيمة احترام القانون وخدمة الشعب. كلمات مثل (كل شىء على ما يرام)، (ونفديك برقابنا)، (وطلباتك أوامر) كلها خطابات راسخة فى مفردات جهاز الدولة من المستويات الدنيا إلى المستويات الأعلى أوردتنا موارد التهلكة.

حالة الفقر والجهل والتعصب التى يرفل فيها الريف والصعيد خاصة، ظاهرة للجميع. لا تنمية ولا تعليم ولا مساواة ولا دولة.

بحث (الثأر) الذى أجراه عميد الأنثروبولوجيا المصرى المرحوم الدكتور أحمد أبوزيد فى مركز البدارى بصعيد مصر (فى الستينيات) يكشف عن حالة ثقافية مثيرة للفزع ولم يحرك أحد ساكنا.

فى السبعينيات عرفت مصر ما سمى (الأحداث المؤسفة )، وهى اعتداءات بسطاء المصريين على أقسام الشرطة بعد موت ذويهم أو تعذيبهم داخلها. شكلت لجنة فى المركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية لبحث الظاهرة. انتهت إلى إعداد تقرير لم يقرؤه أحد.

دراسة العنف فى المجتمع المصرى التى أجراها المرحوم الدكتور سيد عويس مازالت فى الأدراج لم يقرأها أحد. عشرات الدراسات عن العنف الأسرى والعنف ضد المرأة لم يسمع بها أحد.

بعد أحداث الفتنة الطائفية الدامية فى الزاوية الحمراء فى السبعينيات شكلت لجنة برئاسة المرحوم د. جمال العطيفى لدراسة سبل مواجهة الفتنة. أعدت تقريرا رصينا بتوصيات جادة لم يلتفت إليها أحد.

هناك جفوة غير معلنة فى مجتمعنا بين أهل الفكر وأهل القرار. هذه تقاليد كرستها دولة 1952 مفادها أن: دع المثقفين يثرثرون وأهل الثقة يقررون. أين نحن من حكم الحكماء الذى بشر به أفلاطون كطريق نحو بناء المجتمع الفاضل؟ تخيلوا لو كان قد قام على أمر مصر منذ بداية التحديث تلاميذ أحمد لطفى السيد وسلامة موسى وأحمد أمين وطه حسين ومحمد عبده ومصطفى عبدالرازق وعبدالرزاق السنهورى ومصطفى النحاس ومكرم عبيد وطلعت حرب وغيرهم وغيرهم من رعيل النهضة الأولى، ماذا كان سيكون حال مصر اليوم؟

خلاصة الدراسات التى أجريت عن العنف والتعصب، أن الذى يدفع ثمن انتهاك المجتمع لحقوق أعضائه وانتهاك الدولة لحقوق مواطنيها هو الفئات الضعيفة من النساء والأقليات الدينية والفقراء. سيدة الكرم امرأة ومسيحية وفقيرة فى آن واحد. اجتمعت فيها المعايير الثلاثة لانتهاك الحقوق.

إن لم يكن للنخبة الثقافية دور فى كشف مثالب مجتمعها فلا فائدة منها. قارنوا أدوار مؤسساتنا البحثية التى تحادث نفسها، بأدوار مؤسسات الدراسات التى ترسم سياسات الحكومات فى دول الغرب.

الدراسات الاجتماعية المحدودة عندنا انتهت إلى أنه حيث توجد التنمية تقل الجريمة والتعصب. هناك دراسات أشارت إلى أنه بعد إنشاء مجمع الألومنيوم فى نجع حمادى قلت جرائم الثأر. واعتبرت أسوان من أكثر المجتمعات أمنا بعد إنشاء السد العالى ومصنع كيما وغيرهما.

عندما تشح لقمة العيش ويغشى الجهل العقول لا يجد الناس ملاذا إلا فى التعصب والعدوانية. قارنوا بين عدوانية الناس فى العشوائيات ووداعة البشر المبتسمين فى مروج المنتجعات المغلقة. كان المصريون فى عصر القهر العثمانى يخرجون إلى الخلاء عندما يشح النيل يقرأون جماعة صحيح البخارى. هل انساب النهر استجابة لتلاوة الصحيح؟ لم يخبرنا الجبرتى بذلك. وربما لو كان أخبرنا لاتهمه البعض بازدراء الأديان.

لن أذهب بعيدا فى الحديث عن الوظيفة الحضارية لأهل الفكر والمؤسسات البحثية تجاه مجتمعها. سأعطيكم مثلا أبهرنى بمؤسسة فكرية وليدة فى المغرب اسمها (مؤمنون بلا حدود)، أنشئت من مجموعة من المثقفين من المغرب والمشرق العربى مهمتها الدراسة النقدية والاجتماعية والتحليل المعرفى للخطاب الدينى. من إصداراتها المهمة: كتاب أعلام تجديد الفكر الدينى (مجموعة باحثين)، يتحدث عن شروط التجديد ومرتكزاته، وعن بدايات التجديد فى الفكر الإسلامى فى مختلف الأقطار. ثم يستعرض إسهامات عدد من المجددين. ومنها: كتاب الدين والعلم ( شكرى بو شغالة )، والذى يسعى إلى الإجابة على سؤال عن مدى قدرة المجتمعات العربية على التحديث فى ظل أطرها الدينية التى يقاوم أصحاب المصالح تطويرها. ومنها: كتاب (علم الأديان) يناقش فيه الباحث (خزعل الماجدى) الفكر الدينى كظاهرة تتأثر بالمكونات الاجتماعية والثقافية. وكتاب إشكالية التراث والحداثة فى الفكر العربى المعاصر (محمد حسن الرفاعى) ويتناول الباحث هذه الإشكالية متحررا من الانتماء الأيديولوجى وبمنهج البحث العلمى. وكتاب: الفكر المسيحى المعاصر والآخر (عيسى جابلى) وينطلق الباحث أن الدين كما قد يكون دافعا إلى العنف والتعصب قد يكون دافعا إلى التسامح والتعايش. ومنها: كتاب «محنة الإيمان وانغلاق الفقه وتهافت القانون» (رشدى سعدى) وينطلق الكاتب من عملية نقد شاملة للتفسيرات والمرجعيات التى أعاقت تشكيل الإسلام ذى التوجه الإنسانى. ويطرح المؤلف مشروعا فكريا إصلاحيا ينطلق من أن الإسلام احترم الإنسان واستخلفه فى الأرض ليبنى فيها حضارة قادرة على التقدم والتطور والاجتهاد وعدم ( تصنيم النصوص) وتقديس الأفراد لمجرد أنهم سلف.

هذا مثال يثبت أنه بوسع مؤسسات المثقفين المدنية أن تلعب دورها فى إشاعة ثقافة التنوير. عندنا نعهد بتجديد الخطاب الدينى إلى نفس المؤسسات التى كانت تلقن طلابها مقررات تحض على التعصب والتمييز. وما زلنا ننتظر بشغف مجهودات الشيخ حسان والدكتور برهامى فى تجديد الخطاب الدينى!!! ننتظر منهما أن يثبتا لنا مشروعية زواج الصغيرة والصبر على الحاكم الظالم وحرمة ولاية المسلم على غير المسلم والرجل على المرأة.

الدولة بمؤسساتها وسياساتها عبر عقود مضت هى المسؤولة عن ازدياد حدة الاحتقان الطائفى وشيوع أفكار التعصب الدينى. ولا نتوقع من مؤسساتها أن تقوم الآن بالتجديد لأن فاقد الشىء لا يعطيه.

فى السبعينيات عهد لى بتدريس مادة فلسفة القانون لطلاب الدكتوراة بحقوق أسيوط. كانت الدعوة إلى تطبيق الشريعة وقتها تملأ الآفاق وتقسم المجتمع إلى مؤمنين وكفار. رأيت أن أتناقش مع طلابى (وعددهم عشرة) فى كتابين يمثلان وجهتى نظر متقابلتين أحدهما للمرحوم المستشار سعيد العشماوى والآخر للكاتب فهمى هويدى، وأن أدعو المؤلفين للمناقشة. صدرت لى التعليمات صارمة بأن أعرض عن هذا وأستغفر لربى استجابة لتعليمات الأمن. وقتها كان محافظ أسيوط يجوس فى الجامعة محرضا جماعات الإسلام السياسى على العنف تجاه المخالفين حماية لدولة العلم والإيمان.

واليوم أتساءل: هل توجد فى مصر التى يواجه رجالها ببسالة خطر الإرهاب، مؤسسة واحدة قادرة على إحداث حركة إحياء دينى حقيقى؟ الإجابة: لا يوجد. المسؤولية تقع على مؤسسات المجتمع المدنى بشرط ألا تناصبها الدولة العداء بتوجيه اتهامات من قبيل ازدراء الأديان ونشر إشاعات كاذبة من شأنها تكدير السلم العام وتقويض أسس الهيئة الاجتماعية.

أختنا الفاضلة الست سعاد، سيدة قرية الكرم. أنت مستورة بضمير مصر كلها وقلوب أبنائها الذين لم يلوثهم التعصب بعد. الذى تعرى وانفضح فى واقع الأمر ليس هو جسدك العفيف وإنما مجتمعنا بسوءاته وجهله وتعصبه.
نقلا عن المصري اليوم


More Delicious Digg Email This
Facebook Google My Space Twitter
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع