تحدثنا فى مقالاتنا السابقة عن «البابا خائيل» الذى تعرض للحبس، وعن «ابن قُسْطَس» الذى كان يخدُِم البابا والمحبوسين معه؛ ثم تكلمنا عن هرب «مروان» من أمام جيش العباسيِّين والقبض عليه وموته ما أدى إلى نهاية الحكم الأُمَوى، كما تكلمنا عن «أنبا مُويسِيس»، أسقف أوسيم، الذى كان من الشخصيات البارزة والمؤثّرة فى ذٰلك الوقت، ورافق «البابا خائيل» فى أوقات الضيق التى تعرض لها هو والمِصريُّون جميعًا و«الأقباط» خاصة. فقد كان عند هروب «مروان» إلى الصَّعيد أن سمح لجُنوده بنهب البلاد: فصاروا يقتُلون الرجال، ويسبون النساء والأطفال، ويسلُبون كل ما يتمكنون من الوصول إليه ويُهَدِّمون الكنائس. وقد تعرض أهل «طحا» بالمنيا الذين كان عددهم يفوق العشرين ألف نسمة للقتل والنفى بسبب توقفهم عن دفع الأموال، وهُدِّمت كنائسهم ولم يتبقَ بها سوى كنيسة واحدة تحوَّل ثلثها إلى جامع بعد أن عجز «القبط» عن دفع ألف دينار من إجمالى ثلاثة آلاف تعهدوا بدفعها للإبقاء عليها.
وقد تعرضت الأديرة للسلب من عساكر «مروان»، كما تعرضت الراهبات للاغتصاب!! وهٰكذا ظلوا يقتُلون وينهبون البلاد؛ حتى وصلوا إلى «أخميم». وعلى سبيل المثال لا الحصر حين قاموا بنهب دَير كانت تسكنه ثلاثون عذراء، وجدوا بينهن راهبة كانت بارعة الجمال فقرروا أن يأخذوها هدية للخليفة!! وعندما سمِعت تلك الراهبة بعزمهم وكلامهم قالت: إنى أعبد الله بطهارة منذ سنوات عديدة؛ وطلبت إليهم ألا يُفسدوا عبادتها نظير وصفها دواءً لهم يحْمى أعناقهم من السُّيوف! فتعجبوا من كلماتها، فأوضحت لهم أن آباءها كان لديهم هٰذا الدواء وكانوا يتدهنون به عند خروجهم للقتال فلا يؤذيهم السيف. وأكملت قائلة: وإن كنتم لا تصدقوننى، فأنا أدهن رقبتى، وليضربنى أحدكم بالسيف، وسترَون أنه لن يُصيبنى بأذًى!! وأسرعت إلى قَلّايتها، وأحضرت زيتًا دهنت به رقبتها وجسدها، ثم مدت عنقها طالبةً مِن أشجعهم أن يجرب سيفه؛ فتقدم أحدهم وضرب عنقها، فماتت، فعلِموا أنها خدعتهم لكى تحتفظ بطهارتها!! فندِموا وغادروا الدَّير سريعًا. إن تلك الاضطهادات والأوبئة والمجاعات الذى تعرض لها المِصريُّون جميعًا، وبخاصة الأقباط، قد تسببت فى الفتك بهم ما أدى إلى انتقاص عظيم فى أعداد الشعب.
الدولة العباسية
كما ذكرنا من قبل أن تأسيس الدولة العباسية كان يعتمد كثيرًا على «الفرس» الذين نقِموا على الأُمَويِّين بسبب استبعادهم من المراكز والمناصب الكبرى. ومع قيام الخلافة العباسية تغيرت العاصمة من «دمَِشق» إلى «الكوفة»، ثم «الأنبار» حتى شيدوا «بغداد» لتصبح عاصمة لهم. بدأ الحكم العباسى فى عام ٧٥٠م لينتهى فى «بغداد» عام ١٢٥٨م بقُدوم «التتار» إلى «بغداد» وقتل «هولاكو خان» للخليفة العباسى وأبنائه مع معظم سكان المدينة. وفى ذٰلك الزمان، شهِدت «مِصر» قيام الدُّول: «الطولونية»، و«الإخشيدية»، و«الفاطمية»، و«الأيوبية»، ثم دولة «المماليك». وانتقل من بقِى على قيد الحياة من «العباسيِّين» إلى «القاهرة» حيث أقاموا الخلافة مجددًا فى عام ١٢٦١م، لٰكن الحكم الفعلى كان لسلاطين «المماليك»، لتنتهى الخلافة العباسية مع قُدوم «العثمانيِّين» إلى «مِصر». وقد وصلت الدولة العباسية لأقصى اتساع لها فى عام ٨٥٠م.
وبانتهاء الحكم الأُمَوى، صارت «مِصر» تابعة للدولة العباسية. وقد ذكرت «إيريس حبيب المِصرى»: «أمّا «الخُراسانيُّون» الذين عاونوا «أبا العباس» على النصر، فقد اتصلوا بـ«أنبا ميخائيل الأول» وأكرموه كل الإكرام، وكانت التجارِب قد صقلته فزادته حكمة وحُنكة. وفى ذٰلك الزمان، تمكن من أن يُعيد بناء الكنائس التى تهدمت، وأن يستعيد أموالها المبدَّدة. وقد أحسن «الخُراسانيُّون» إلى «البَشموريِّين» كذٰلك بأن أعفَوهم من الجزية، ومنحوهم الهبات المالية الوفيرة».
وهٰكذا استعادت «مِصر» بعضًا من هُدوء أحوالها، وكان جُهد كبير يُبذل فى إقرار الأمن. إلا أن الحال لم تستمر كذٰلك طويلًا، فبعد قُرابة عامين وبسبب سياسة تبديل الوُلاة بعد مدة قصيرة خَشية استقلال أحدهم بـ«مِصر»، كانت حالة من عدم الاستقرار لدى الجميع، وبخاصة الوُلاة الذين اهتم كثير منهم بجمع المال فى مُدد وِلايتهم القصيرة دون الاهتمام بأمور البلاد أو المِصريِّين.
الخليفة «أبوالعباس عبدالله» (١٣٢-١٣٦هـ)- (٧٥٠-٧٥٤م)
هو «عبد الله بن مُحمد بن على بن عبدالله بن العباس بن عبدالمطلب» أول خلفاء الدولة العباسية، ولُقب بالسفاح! لكثرة ما سفكه من دماء، وبخاصة عند دخوله «دمَِشق». استمرت خلافته قرابة أربعة أعوام وتسعة أشهر. بُويع الخلافة فى «الكوفة»، فقاتله «مروان بن مُحمد» حتى قُتل فى «مِصر» ـ كما ذكرنا فى مقالات سابقة ـ ثم قامت الخلافة العباسية. لٰكن حكمه لم يخلُ من بعض ثوْرات قام بها بعض أنصار الدولة الأُمَوية قضى عليها. انتقل من «الكوفة» إلى «الأنبار»، وبنى فيها «مدينة الهاشمية» لتصبح مقرًّا له، وظل بها حتى تُوفى بمرض «الجُدرى» بعد أن عَهِد بالخلافة لأخيه «أبى جعفر المنصور». وقد شهِدت «مِصر» فى أيامه، ولاية كل من «صالح بن على بن عبدالله العباسى»، ثم «أبى عَون عبد الملك بن يزيد».
«صالح بن على بن عبدالله العباسى» (١٣٣هـ)- (٧٥٠-٧٥١م)
هو أول وُلاة «مِصر» من العباسيِّين، وقد تولى حكمها من قِبل ابن أخيه الخليفة «عبد الله بن مُحمد». وفى «مِصر»، قبض على المِصريِّين الأُمَويِّين، وقتل كثيرًا من بنى أُمَيّة، وأرسل بعضًا منهم إلى «العراق» حيث قُتلوا فى قلعة منفردة تسمى «قلنسوة» قرب «الرملة». ثم ولّاه الخليفة حكم «فِلَِسطين»، فترك «مِصر» بعد أن استخلف عليها «أبا عَون عبد الملك بن يزيد»؛ وبذٰلك كانت مدة وِلايته على «مِصر» قرابة سبعة أشهر، ولٰكنه تولى الحكم مرة ثانية سنذكرها فى حينها.
«أبوعَون عبد الملك بن يزيد» (١٣٣-١٣٦هـ)- (٧٥١-٧٥٣م)
تولى حكم «مِصر» باستخلاف «صالح بن على» له؛ وقد استمر فى «مِصر» إلى أن وقع بها وباء فغادرها إلى «جبل يشكر» بين «القاهرة» و«مِصر القديمة»، تاركًا فى الحكم رئيس شرطته «عكرمة بن عبدالله»، حتى انتهى الوباء فعاد إلى «مِصر» وظل بها حتى غادرها ثانية إلى «دِمياط» عام ١٣٥هـ (٧٥٢م)، تاركًا أمور الحكم مرة أخرى مع «عكرمة»، وجمع الضرائب مع «عطا بن شُرَحْبِيل». وقد كان «عطا بن شُرَحْبِيل» و«صَفِى» رجلين قد حضرا إلى «مِصر» لإعادة أمور أموالها إلى ما كانت عليه فى أثناء حكم «مروان» الذى أحرق جميع الكتب وحسابات الدواوين قبل هربه؛ وقد كانا رجلين بلا رحمة ولا شفقة محبين للمال؛ فضاعفا قيمة الضرائب وبخاصة على «الأقباط»، فقد كانت أيسر الوسائل لجمع المال هى زيادة الضرائب على المِصريِّين عمومًا وعلى «الأقباط» خصوصًا. فتوجه «البابا خائيل» إلى الوالى وذكرَّه بعهد قائد «الخُراسانيِّين» له بإقرار العدل ورفع الظلم عن «الأقباط» عند انتصاره على «مروان بن مُحمد»، ولٰكن الوالى أخبره أن تلك الضرائب هى بأوامر مشددة من الخليفة بسبب وشاية بعض رجال قصره فى أهل «مِصر»، قائلين إن سياسة اللين مع أهل «مِصر» سوف تؤدى إلى محاربتهم له كما فعل «البشامِرَة» مع «مروان». فطلب البابا تخفيض بعض الضرائب، فأمر الوالى الكاتبَين بتحقيق ما طلبه «البابا خائيل» لكنهما لم يسمعا له، وظل «البابا خائيل» ومعه «أنبا مويسيس» فى مفاوضات معهما استغرقت شهرًا حتى نجحا فى تخفيض الضرائب. وذكرت بعض المصادر التاريخية لـ«ابن التَّغري»، وللأستاذ «عبدالعزيز جمال الدين» أن قبط الوجه البحْرى قد ثاروا على الوالى بقيادة شخص يُدعى «أبا مينا»؛ فأرسل الوالى إليهم الجُنود فحاربوهم وقتلوهم. ثم عاد الوالى إلى «مِصر»، وفى تلك الأثناء ورد إليه أمر عزله من الخليفة «أبى العباس عبدالله» وعودة «صالح بن على العباسى» مرة أخرى لحكم «مِصر»، فكانت مدة وِلايته سنتين وثمانية أشهر. ويُذكر عن الوالى «أبى عَون» أنه كان عادلًا ذا معاملة حسنة للجميع، فتمكن «البابا خائيل» من القيام برِحْلات رعوية فى تلك المدة.
وعن مِصر الحلوة الحديث لا ينتهى...!
الأسقف العام رئيس المركز
الثقافى القبطى الأُرثوذكسىّ
نقلا عن المصرى اليوم