(حول تداعيات مؤتمر واشنطن وهجوم ناشط من أقباط المهجر عليّ)
معركةٌ صغيرة يقودُها ضدّي ناشطٌ من أقباط المهجر، وضعتني أمام سؤال خطير: هل نريدُ مصرَ دولةً مدنيةً أم دولة دينية؟ هل قمنا بثورةٍ في إثر ثورة، وبدّلنا حاكمًا في إثر حاكم في إثر حاكم، وكتبنا دستورًا في إثر دستور، وسقط منّا شهداءُ في إثر شهداءَ في إثر شهداء، من أجل دولة عدالة ومساواة ودستور مدنيّ، مازلنا نكافح حتى يُفعَّل؟ أم من أجل دولة أقليّات وأكثريات وقبائل وعشائر وطوائف ومذاهب وتمييز عنصري وتمايز مذهبيّ وطائفي وعَقَديّ؟!
أنا اخترتُ الحُلم الأول. وخصمي الناشط اختار الحلم الثاني. أنا قلتُ لا بديل عن المدنية. وهو يصرُّ على أن يجعلها دينية، حيث الأكثريات والأقليات! حدث هذا في إحدى الجلسات ضمن مؤتمر "دعم الأقباط" بالعاصمة الأمريكية واشنطن يومي ٩-١٠ يونيو الراهن.
أنا: مواطنة مصريةٌ مسلمة. وقفتُ تحت العلم الأمريكي الأسبوع الماضي وتحدثتُ بالعربية قائلة: أقباطُ مصرَ ليسوا أقليةً في وطنهم مصر، بل مواطنون أصحابُ أرض وتاريخ، لا لاجئين ولا وافدين. ويجب أن يحميهم دستورُ بلادهم بمواده التي تنصُّ على أن المصريين أمام القانون سواءٌ دون تمييز عَقَدي أو طائفيّ. هو: ناشطُ من أقباط المهجر الأمريكي. وقف تحت العلم الأمريكي وتحدث بالإنجليزية قائلا إن أقباط مصر أقليةٌ مستضعفةٌ تضطهدهم الدولةُ المصرية ويجب على المجتمع الدولي حمايتهم.
اتفقت مع وجهة نظري الغالبيةُ العظمى من أقباط المهجر الذين حضروا تلك الجلسة، واتفق مع صاحبنا الناشط بضعةُ أشخاص لم يتجاوزوا الخمسة.
الفارق بين حُلمي وحُلمه، هو الفارق بين الشتيتين. حُلمي أنا: الدولةُ المدنية. دولة العدالة التي ترى المواطنين سواء، الرجل كالمرأة، الفقيرُ كالغنيّ، المسلم كالمسيحي. الجميعُ سواءٌ أمام القانون؛ بأمر الدستور. وحُلمه هو: الدولة الدينية. التي تُمايزُ بين المواطنين على أسس طائفية ومذهبية و”عددية”. الدولة التي تمارس الفرز الطائفي بين المواطنين في الحقوق والواجبات. الدولة التي تعترف بشيء اسمه: أكثرية مسلمة وأقلية مسيحية. الأكثرية تتمتع بحقوق ممتازة تمنحها الدولة المصرية، وعلى الأقلية اللجوء إلى دول الغرب لتنال بعض حقوقها شأن الوافدين واللاجئين!
فهل من أجل هذا أشعلنا الثورات وأهرقنا الدماء؟!
تلك هي المعركةُ بيني وبين الناشط سالف الذكر. أنا أحلم بدولة العدالة والمساواة. والذي يناصبني العداء ويكيل لي السُّباب والاتهامات على صفحته وصفحات أصحابه، ينادي بدولة دينية يكون فيها المسيحيون "أقليةً" مستضعَفة، تطرق أبوابَ الكيانات الغربية لتتلقف ما يُمنح "للأقليات" من معونات وهبات وحسنات! فهل تقبل مصرُ (الأمُّ) على شَطرٍ من أبنائها، يحملون اسمها ويحفظون تاريخها، أن يُسمّوا "أقلية" على أرضها، وكأنهم وافدون أو لاجئون بلا وطن؟ هل يقبل المصريون المسلمون على أشقائهم المصريين المسيحيين، الذين يقتسمون معهم الأرض والتاريخ والمصير، أن يُعامَلوا كأقلية مُستضعَفه في بلادهم وعلى أرض وطنهم مصر؟
مازلتُ أؤكد للمرة الألف أن مفردة: "قبطي" تعني: "مصري” لغويًا وتاريخيًّا. وأن كل مواطن مصري مسلم راهن، له جَدٌّ قبطيّ في زمن ما. وأن المصري المسيحي مواطنٌ له كامل حقوق المواطنة التي لابد من الكفاح من أجلها كلنا يدًا بيد، (مسلمين ومسيحيين ). وأنني أرفض أن يطالب المسيحيُّ بحقوقه في وطنه (مصر) كـ:"شريك في الوطن" أو لاجئ" أو "أقلية" أو "وافد" أو "أهل ذمّة مُستضعَف" إلى آخر تلك التعريفات المغلوطة التي يحاول "أصحاب المصالح" ترويجها تحت لواء العلم الأمريكي. بل على كل مصري مسيحي، وعلينا جميعا كمسلمين، المطالبة بحقوق القبطي المسيحي على أرض مصر، كمواطن مصري حرّ له كامل حقوق المواطنة بموجب الدستور المصري وبموجب التاريخ.
ويشهد التاريخُ أن رجلا عظيمًا مرّ بمصر، رفض مصطلح "أقلية مسيحية"، كما أرفضُه أنا. وضع صالحَ مصرَ وكرامتها قبل أية اعتبارات أخرى. يشهد التاريخُ لأقباط مصر المسيحيين بالوطنية الناصعة التي تتجلى في الشدائد حين سامحوا في جرائم تعرضوا لها على مدى خمسين عامًا كان من الممكن أن تُدمر مصر لولا حكمة ووطنية البابا شنودة رحمه الله الذي لم يقبل يومًا تدويل القضية القبطية وكان يقول بعد كل جريمة طائفية تُرتكب في حق أقباط مصر: “فلتحترق كنائسنا ولتحيا مصر.” يشهد التاريخُ أن مسيحيي مصر تعرضوا على مدى خمسة عقود لشتى ألوان البطش من حرق كنائس وقتل مسيحيين وتمييز في الوظائف ومنع من تولّي الوظائف السيادية في وطنهم وغيرها من سخافات وجرائم ارتكبها موتورون من الجماعات التكفيرية والمتطرفين منذ عهد السادات وحتى اليوم، وقلّما عوقب المجرمون، بسبب المجالس العرفية التي هي جريمةٌ أخرى يرتكبها الجاني والمجني عليه متضامنين. ويشهد التاريخ أن مصر مازالت تعاني من انهيار هائل في منظومة التعليم والثقافة والأخلاق والذوق والقانون، لهذا مازال يتعرض المسيحيون لبلطجة المتطرفين والتكفيرين أعداء الحياة. وفي معظم الأحيان تخفق الدولة في الاقتصاص للمجني عليه لأن الخلل والمحسوبيات يعشش في جميع المؤسسات، وهو ما يجب أن نواجهه ونعالجه جميعًا حاكمًا وحكومةً وشعبًا ونخبة وأزهر وكنيسة، مسلمين ومسيحيين، من هنا: من أرض مصر، وليس من أية دولة أخرى.
ويبقى السؤال: هل يريدُ المسيحي المصري أن ينال حقوقه كمواطن أصيل كما ينص الدستور، أم كلاجئ أو وافد أو "أقلية" في دولة مُضيفة؟
وسؤالي الآن موجه لأقباط المهجر الشرفاء: أنتم تعيشون في رغد الغرب الأمريكي أو الكندي أو الأوروبي حيث الحرية والديمقراطية واحترام حقوق الإنسان دون تمييز ديني، ولكن، لو كنت تعيش في مصر، هل كنت تُفضّل أن تكافح بسُموّ وشرف من أجل نيل "حقوق" مواطنتك "الكاملة" كمواطن (صاحب بلد وليس ضيفًا ولا وافدًا) فتأخذ حقوقك بقوة وعزة كما ينص دستور بلدك، وتحاول أن تعلم الناس ما يجهلونه من معنى المواطَنة كحق أصيل لك، أم تلجأ إلى الاستضعاف والمسكنة أمام المجتمع الدولي وتقول: "أنا مواطن من الدرجة الثانية، أرجوكم أمنحوني حقوق "الأقلية" (في بلدي!!!) وساعدوني كما تساعدون "المعوق" في بلاد الغرب؟
نقلا عن مبتدا