من وقع تصفيق الجمهور وإيقاعه، كانت السيدةُ الجميلة تعرف اسم أغنية السيدةِ الجميلة. الجميلةُ الأولى هى أمى سهير، رحمها الله، المثقفة التى لم تكن تسمح بأن يدخل أذنيها إلا راقى الطرب. وأما الجميلة الثانية فهى السيدة أم كلثوم. بمجرد هدير التصفيق، لحظة نهوض أم كلثوم عن مقعدها الخشبى بعد انقضاء المقدمة الموسيقية، كانت أمى تهمس: «أمل حياتى». عشّاق أم كلثوم الحقيقيون يعرفون الأغنية بمجرد رؤية الفستان الذى ترتديه السيدة العظيمة والمنديل الشيفون الذى تحمله بيمناها ليمتصّ طاقة التوتر التى تنتابها بعد رؤية الجمهور الأنيق المثقف الذى جاء من كل العالم ليسمع شدوها. والجمهور الأكثر عشقًا، لم يكن بحاجة إلى مشاهدة الفستان ليعرفوا اسم الأغنية، بل كانوا يعرفونها من النغمة الأولى من اللحن الموسيقى، ومن المقام الحامل للحن: صبا، بياتى، حُجاز، نهاوند، إلخ. أما أمى الجميلة، فقد غلبت الجميع بمعرفة الأغنية من نغمة التصفيق التى تسبق النغمات والمقام. معجزة سمعية تليق بعاشقة لمعجزة طربية ثقافية هائلة.
تذكّرت كل هذا مع عيد ميلاد الإذاعة المصرية، ٣١ مايو ١٩٣٤. هذا الصندوق الثقافى الهائل الذى كوّن ثقافة أجدادنا وجدّاتنا قبل دخول التليفزيون إلى بيوتنا. واستمر هذا الصندوق المدهش فى مدّ الأجيال التالية بكنوز لا حدود لها من المعارف والفنون الراقية. أمى الجميلة تلك، على عشقها لفن أم كلثوم، كانت حاسمة جدًّا فيما يخص الاستذكار نشدانًا لتفوّق طفليها، شقيقى الأكبر وأنا. لم يكن مسموحًا لنا إلا أن ندرس طوال الوقت، وكل ما عدا هذا من مباهج ولعب وأصدقاء وسينما وتليفزيون، فكانت من الممنوعات والخطوط الحمراء العصية. لكننى استطعتُ بعد جهدٍ أن أجعلها بأن تمنحنى عشر دقائق من كل يوم فى العاشرة مساء، أستمع فيها إلى برنامج «لغتُنا الجميلة» الذى يقدمه الشاعر الكبير «فاروق شوشة»، بعدما أقنعتها أن إنصاتى إليه سوف يدرّبنى على إجادة اللغة العربية فيؤدى هذا إلى تحصيل الدرجات العليا فى المدرسة. ولهذا البرنامج الثريّ يعود جزءٌ كبير من الفضل فى عشقى للغة العربية، بعد القرآن الكريم وديوان الشوقيات، وموسوعة الأغانى للأصفهانى. ثم تماديتُ أكثر فى إغوائى لها، حتى وافقت أن أفتح محطة «البرنامج الموسيقى» بصوت خافت وأنا أستذكر دروسى؛ بعدما أقسمتُ لها أن ذلك يساعد عقلى على الاسترخاء من التوتر، واستيعاب الدروس على نحو أفضل.
كانت محطة أم كلثوم، تبدأ فى الخامسة عصرًا بأغنية لها، تتلوها أغنية للموسيقار الأسطورة محمد عبدالوهاب، تتلوها أغنية لفريد الأطرش، ثم عبد الحليم ونجاة الصغيرة، وغيرهم من رموز الطرب، حتى تختتم برنامجها بأغنية أخرى لكوكب الشرق قبل أن تُغلق بابها فى العاشرة مساء. كانت هى الساعات الخمس التى تزيّن بيوتنا المصرية بأيقونات الصوت والموسيقى والفرح.
فى أربعينيات وخمسينيات القرن الماضى، كان هذا الصندوق الساحر هو مركز التقاء الأسر المصرية حول حفلات أم كلثوم، لمن لم يستطع أن يحظى بتذكرة لحضور الحفل لايف فى مسرح سينما ريفولى بالقاهرة. لم تكن كل البيوت المصرية قادرة على شراء هذا الصندوق الساحر، فكان الجيران يذهبون إلى البيت «الثرى» الذى يمتلك الراديو لكى يسهروا على صوت الجميلة أم كلثوم.
مَن فينا ينكر فضل برنامج «زيارة لمكتبة فلان» الذى تقدّمه الإعلامية الجميلة الأستاذة «نادية صالح»، بصوتها الشهيّ واختياراتها المثقفة؟ عبر هذا البرنامج كان بوسعنا التلصص على عقول نخبة مصر والعالم العربى، عبر التسلل إلى مكتباتهم والتلصص على عناوين الكتب التى تحملها رفوف المكتبات تلك. قُل لى ماذا تقرأ أقل لك مَن أنت. عبارة صادقة مائة بالمائة لأن اختيار المرء جزءٌ من عقله، كما قال الإمام السيوطى.
فى عيد ميلاد الإذاعة المصرية، أقول: كل سنة وأنت طيب، أيها الصندوق الطيب.
نقلا عن المصري اليوم