د. أحمد الخميسي
لن أكتب هذا المقال. ولم أكتبه؟ أنا أكتب للصحافة من زمن طويل جدا وبانتظام ومع ذلك فإن كل مقالاتي مجتمعة على مدى عشرين عاما لم تبدل شيئا صغيرا طفيفا واحدا، لم تغير من وضع حجر على حجر، ولا هزت أنحف شعرة في رأس وضع مستقر على خطأ أو قائم على فساد، ولا قلقل أي منها مؤسسة أوحتى كشك سجائر ولو بهزة عابرة.
فما الذي يجبرني على كتابة هذا المقال؟ لا شيء، لا حافز، ولا رغبة، ولا إيمان بأثر الكتابة يدفعني لإنهاء هذا المقال والوصول به إلي نهايته.
أضف إلي ذلك حقيقة ساطعة ألا وهي أن كل شيء معروف! حتى أنك لو قمت بتوزيع ورقة بيضاء لحسبتها الجهات المختصة منشورا سياسيا.
والحق أني لا أجد ما ينطبق على دور الكاتب عندنا وتأثيره سوى المثل الشعبي:"البقرة تلد.. فعلام يخور الثور؟ أجاب الثور:تحميل جمايل".
الناس يعانون ونحن نخور بجوارهم ونحملهم جمايل كلماتنا وأقلامنا، بينما يتحملون هم عبء الواقع، ولا شيء يتغير. وإذا كان الحصاد الأدبي للكتابة قبض ريح فإن حصادها المادي أقل من ذلك بكثير، إذ لا قبض فيه على الإطلاق! وقد كان ذلك الحصاد ومازال زهيدا ومضحكا منذ أن كتب المازني عام 1924 يخاطب القاريء بقوله:" أقسم أنك تشتري عصارة عقلي وإن كان فجّا، وثمرة إطلاعي وهو واسع، ومجهود أعصابي وهي سقيمة ، بأبخس الأثمان! وتعال معي لنتحاسب ! إن في الكتاب أكثر من أربعين مقالا تختلف طولا وقصرا وعمقا وضحولة.
وأنت تشتري كل أربع منها بقرش!". فلا نحن نحصل على أجورنا بعد أن يجف عرقنا، ولا كلماتنا تساهم حقا في تغيير. لهذا لن أكتب هذا المقال.
لاشيء يرغمني على الانشغال ثلاثة أيام باختيار موضوع للكتابة، ثم الكتابة مهموما بالخطوط الحمراء ومستغرقا في تمرير الجمل من ثقب إبرة! بالمناسبة كان للأدباء السوفيت اختراع خاص بهم لتمرير الحقيقة من ثقب الرقابة الضيق، فكانوا يدرجون في أعمالهم مشهدا معاديا للنظام يضعونه خصيصا ليلتهي الرقيب بحذفه ويغفل عن جوهر النقد في العمل! يمنعني من كتابة هذا المقال أيضا أن الكتابة عملية إبداعية سهلة على الجميع، صعبة على الكاتب! يقول العظيم يحيي حقي في ذلك:" قد أكتب الجملة الواحدة ثلاثين أو أربعين مرة حتي أصل إلى اللفظ المناسب"! وكانت كتابة صفحة واحدة تستغرق من فلوبير صاحب" مدام بوفاري" عدة أسابيع! يكتب ويكرر لتعزية نفسه أن الموهبة ليست سوى الصبر الطويل.
بالطبع الأمر يختلف عند كتابة مقال صحفي لكن يظل التدقيق في الكلمات واختيارها بعناية مطلوبا خاصة إن كان المقال ينتسب إلي نوع"المقال القصصي"الذي عده جابريل جارثيا ماركيز من فنون الأدب. لم إذن أنهي هذا المقال؟ وفيم كل وجع الرأس هذا؟! من أجل ماذا؟ لا فلوس ولا تأثير، وما نكتبه تفرقه الريح ولا يمكث في الأرض. فما الذي يغريني بالحبسة في حجرة مغلقة ساعات طويلة لإنهاء هذا المقال؟. لن أكتب هذا المقال. مهما كان عشقي الكتابة، لن أكتبه، وليبق مجرد خاطر عابر لا يتجسد في كلمات! ليبق هكذا.