قلة قليلة من بيننا، هى التى يمكن أن تشغل نفسها أو ضميرها يوم العيد، بهؤلاء الذين لا يحتفلون، هؤلاء الذين لا يفرحون، هؤلاء الذين لا يبتسمون، هؤلاء الذين لم يرتدوا جديداً، رغم أنهم كُثُر إلى الحد الذى لا يتخيله أحد، الأرقام تتحدث عن مليونى مُشَرَّد، تحت الكبارى وفوقها، فى الأزقة والحوارى، فى القرى كما فى المدن، فى كل مكان تقريباً، الأرقام تتحدث عن أن ثلث الشعب تقريباً يعيش فى مناطق عشوائية، الأرقام لم تحصر من فقدوا آباءهم وأمهاتهم، اليتامى الذين يهتز لهم عرش الرحمن.
قبل نحو ١٥ عاماً، سمعت أحد مشايخنا الأفاضل وهو يُفتى بأن تزويج مسلم ومسلمة أفضل عند الله سبحانه وتعالى من تكرار الحج أو العمرة، كنت آمل البناء على هذه القاعدة فى فتاوى العلماء، على مدى الأعوام الماضية كان يجب توعية الناس، هناك الكثير من أبواب الإنفاق التى تستحق على غرار التزويج، وربما ما هو أكثر، من مصارف الصدقات الثمانية، هذا هو التجديد الحقيقى للخطاب الدينى، وهذا هو دور العلماء.
أعتقد أن المترددين على أداء العمرة على مدار العام يزيد عددهم على ثلاثمائة ألف نفس، نصف هذا العدد على الأقل فى شهر رمضان، بخلاف مائة ألف فى موسم الحج، معظم هؤلاء وأولئك لا يؤدون الشعائر للمرة الأولى، بل هناك من قاموا بها أعواماً عديدة، بل هناك من يؤدونها سنوياً، التكلفة فى ذلك مرتفعة جداً، أصبحت مضاعفة، تكلفة عام واحد مجتمعة تزيد على عشرة مليارات جنيه، يمكن أن تحل مشكلة كل المشردين، تكلفة عام آخر يمكن أن تحل مشكلة العشوائيات، تكلفة عام ثالث يمكن أن تحل أزمات اليتامى، مطلوب التوعية ليس أكثر.
على الجانب الآخر، هناك عشرات الآلاف اعتادوا قضاء الإجازات والعطلات خارج مصر، إنها العملة الصعبة التى ندر وجودها هذه الأيام، الإنفاق على المخدرات فى الأيام التى تعقب انتهاء الشهر الكريم قد يوازى كل ذلك، الإنفاق على سهرات وملاهى ما بعد العيد أيضاً، فى ظل تلك الظروف من الذى يمكن أن يفكر فى ذلك المُشرد، أو المحتاج بصفة عامة، حتى جهود الدولة الرسمية تتجه إلى المراكب النيلية، والشواطئ البحرية، والملاهى الليلية، وحفلات السهر والسمر.
أعجبتنى تويتة مؤخراً، كان هذا نصها: «ليس هناك دليل على أن المساجد والكنائس تصنع التطرف، لكن المؤكد أن السجون والاستبداد والفساد تصنعه وتنتجه بشكل يصعب منافسته».. أعتقد أيضاً أن سفه الإنفاق فى مجتمع أكثر من نصف سكانه تحت خط الفقر يؤدى إلى نفس النتيجة، التطرف والبلطجة فى آن واحد، أيضاً هناك العديد من مظاهر السفه بالداخل، بدءاً من أعداد المستشارين الحكوميين، وذلك الهدر المالى عليهم، وانتهاء بقرى السواحل، وكومباوندات الحدائق المزدوجة، من خلال الإعلانات التى أصبحت أكثر استفزازاً.
أتصور أنه إذا كانت نسبة الذين لا يستطيعون الفرح عالية فى أى مجتمع فليس من حق الآخرين ذلك، إذا كانت نسبة الفقر والتشرد بهذا الشكل فليس من حق أحد الحديث عن ماضٍ أو حاضر أو مستقبل، إذا اكتشفنا أن الحلول كثيرة لأزماتنا، دون قدرة على مواجهتها، أو دون القدرة على اتخاذ القرار، يحب أن نعترف بالفشل، يبدو أنها مأساة يعيشها مجتمعنا من كل الوجوه، إلا أن هناك من قضايا الاستقطاب والانقسام ما جعلتنا لا نعير اهتماماً لأهم قضايانا الاجتماعية والاقتصادية.
الحوادث الجنائية التى نشاهدها ونقرأ عنها هذه الأيام تؤكد أننا نعيش أزمة حقيقية، أزمة أخلاق كما أزمة إدارة، أزمة تربية كما أزمة تعليم، أزمة أُسرة كما أزمة مجتمع، من أسوان حتى الإسكندرية، ومن الدقهلية حتى مطروح، الجريمة تتفاقم فى صور وأشكال، كان يجب أن تستوقف علماء النفس، كما علماء الاجتماع، كما علماء الدين، كما كل أجهزة الدولة، للتصدى لتلك الأزمة، التى كان الفقر محورها أولاً وأخيراً.
بالفعل، بأى حال عُدت يا عيدُ، بمزيد من الفقر، أم مزيد من الجريمة، أم مزيد من تكميم الأفواه، أم مزيد من السجون، أم مزيد من التشرد، أم مزيد من التسول، أم مزيد من البطالة، أم مزيد من تراجع قيمة العملة المحلية، أم مزيد من ارتفاع الأسعار، أم مزيد من الانقسام المجتمعى، أم مزيد من المهاجرين وضحايا الهجرة، أم مزيد من المضطهدين، أم مزيد من جفاف النيل، أم مزيد من التنازلات والسياسات الخاطئة.
على أى حال، كما أن شهر رمضان كان فرصة لالتقاط الأنفاس، وبدء صفحة جديدة مع الله سبحانه وتعالى، أعتقد أن أيام العيد يجب أن تكون فرصة للنظر وإعادة النظر من جديد فى علاقتنا بكل هذه الفئات التى لم تحصل على حقها فى حياة كريمة، بدءاً بهذا الطفل المشرد، وانتهاءً بهذا العجوز المتسول، مروراً بتلك المرأة التى أصبحت دون عائل، وفى أحيان كثيرة «تحسبهم أغنياء من التعفف»، وهو ما يوجب علينا البحث عنهم والوصول إليهم أينما كانوا، ولنكن على يقين أن هذه هى مهمتنا الأولى فى الحياة، دون منازع، إن وفقنا الله سبحانه إلى طريق الصواب، وهذا ما نأمله، إنه سميعٌ قريبٌ مجيب الدعاء.
نقلا عن المصري اليوم